ثمّ إذا كان الإسلام دينا عالميا أبديا لنوع البشر، مع أنّ المجتمعات لا تزال
في تطور و تغيير، و لا تزال حوائجهم تختلف و تزاد و تتنوع و تتشعب، مع كون قوانين
الإسلام ثابتة و مؤيدة، يقع السؤال أنّه كيف ينطبق ذاك الأمر المتغير دائما، على
هذه القوانين الثابتة دائما؟
و هل يمكن الجمع بينهما؟ مع أنا نرى القوانين في الجوامع الإنسانيّة- أي
القوانين الموضوعة من ناحية العقول البشرية- تتغير دائما كي تنطبق على متطلباتهم،
فالإسلام يجعل قوانينه ثابتة و مع ذلك يقضي بها حوائج الناس في جميع أقطار العالم
و جميع الأعصار، و هذا مسألة مهمّة و عجيبة.
و قد فاز الإسلام في هذا الميدان فوزا عظيما، و السرّ فيه مضافا إلى أن واضع
القانون هنا هو اللّه جلّ شأنه، العالم بالسرائر، و الوقف على الضمائر، و هو
الخالق للإنسان الخبير بحاجاته المادية و المعنوية، فانّ في الإسلام اصولا كلية، و
قوانين جامعة، لها شمول كثير، و دوائر واسعة، و خطوط عريضة، و تزدهر زمانا بعد
زمان، و تتغير مصاديقها و تبقى ذواتها، مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و «المؤمنون عند شروطهم»، و «ما حكم به العقل حكم به الشرع» و غيرها من
أشباهها.
أضف إلى ذلك، القواعد الكثيرة المشتملة على العناوين الثانوية مثل «قاعدة لا
ضرر» و «قاعدة لا حرج»، و «الضرورة» و «لزوم ما يتوقف عليه حفظ النظام»، و «قاعدة
الاهم و المهم عند تزاحم المصالح» و أشباهها.
فكم من مشكلة عظيمة انحلت بمعونتها، و كم من عويصة غامضة مظلمة انكشفت في ضوء
أنوارها، فالحكام العناوين الثانوية من أهم أسباب الحكومة الإسلامية لحل المعضلات.
و لكن هنا أمران يجب التنبيه عليهما، و التحذير منهما كل الحذر:
الأوّل: أنّه ليس معنى هذا الكلام، اتباع الاهواء و الجرى وفق المذاق و
التلاعب بالأحكام الأولية كما يشاء، بل لا بدّ من الدقة، و كمال الدقة يكون في كشف
مصاديقها و الأخذ بما هو مقتضى الحزم و الاحتياط فيها، فانّ الأمر هنا صعب مستصعب،
و قد خفي على بعض من لا خبرة له بالفقه حتى أصبحت أحكام اللّه تعالى تابعة
لميولهم، رغم حكم