و أمّا طلبهم عزل اسامة بعد وفاة الرسول، فقد اعتذر عنه بعض العلماء
بأنهم ربما جوزوا أن يوافقهم الصديق على رجحان عزله لاقتضاء المصلحة- بحسب نظرهم-
لذلك، و الإنصاف أني لا أعرف وجها يقبله العقل في طلبهم عزله بعد غضب النبي من
طعنهم في تأميره، و خروجه بسبب ذلك محموما ألما به معصبا مدثرا، و تنديده بهم في
خطبته تلك على المنبر التي كانت من الوقائع التاريخية الشائعة بينهم، و قد سارت كل
مسير، فوجه معذرتهم بعدها لا يعلمه إلّا اللّه تعالى.
و أما عزمهم على إلغاء البعث، و إصرارهم على الصدّيق في ذلك، مع ما
رأوه من اهتمام النبي في إنفاذه، و عنايته التامة في تعجيل إرساله، و نصوصه
المتوالية في ذلك، فإنما كان منهم احتياطا على عاصمة الإسلام أن يتخطفها المشركون
من حولهم؛ إذا خلت من القوة، و بعد عنها الجيش، و قد ظهر النفاق بموت النبي صلّى
اللّه عليه و آله و سلّم، و قويت نفوس اليهود و النصارى، و ارتدت طوائف من العرب،
و منعت الزكاة طوائف اخرى، فكلم الصحابة سيدنا الصدّيق في منع اسامة من السفر
فأبى، و قال: و اللّه لئن تخطفني الطير أحب إليّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول
اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
هذا ما نقله أصحابنا عن الصدّيق، و أما غيره فمعذور فيما أراد من رد
البعث، إذ لم يكن لهم مقصد سوى الاحتياط على الإسلام.
و أما تخلف أبي بكر و عمر و غيرهما عن الجيش حين سار به اسامة، فإنما
كان لتوطيد الملك الإسلامي، و تأييد الدولة المحمدية، و حفظ الخلافة التي لا يحفظ
الدين و أهله يومئذ إلّا بها.