الحال، و قد ظهر النفاق بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و
سلّم، و قويت بفقده شوكة المنافقين، و عتت نفوس الكافرين، و تضعضعت أركان الدين، و
انخلعت قلوب المسلمين، و أصبحوا بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب
عادية و وحوش ضارية، و ارتدت طوائف من العرب، و همّت بالردة أخرى- كما فصلناه في
المراجعة 82- فأشفق علي في تلك الظروف أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة
البائقة، و فساد العاجلة، و القلوب على ما وصفنا، و المنافقون على ما ذكرنا، يعضون
عليهم الأنامل من الغيظ، و أهل الردة على ما بيّنا، و الأمم الكافرة على ما
قدّمنا، و الأنصار قد خالفوا المهاجرين، و انحازوا عنهم يقولون: منا أمير و منكم
أمير[1]. فدعاه النظر للدين
إلى الكف عن طلب الخلافة، و التجافي عن الأمور، علما منه أن طلبها- و الحال هذه-
يستوجب الخطر بالأمة، و التغرير في الدين، فاختار الكفّ إيثارا للإسلام، و تقديما
للصالح العام، و تفضيلا للآجلة على العاجلة.
غير أنه قعد في بيته- و لم يبايع حتى أخرجوه كرها-[2]احتفاظا بحقه، و
احتجاجا على من عدل عنه، و لو أسرع إلى البيعة ما تمّت له حجّة و لا سطع له برهان،
لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، و الاحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين، فدلّ هذا على
أصالة رأيه، و رجاحة حلمه، و سعة صدره، و إيثاره
[1]راجع تاريخ الطبري: ج 4 ص 218 و 219 و 220 ط دار المعارف بمصر، شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 6 و 9 ط مصر بتحقيق محمد أبو الفضل، و ج 2 ص 4
ط 1 بمصر، تاريخ اليعقوبي:
ج 2 ص 102.
[2]إخراج الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام كرها لأجل البيعة.
راجع العقد الفريد: ج 4 ص 335 ط لجنة التأليف و النشر بمصر، و ج 2
ص 285 ط آخر شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 415 أوفست بيروت.