قائمة به كالإحسان و العدل من حيث هما إحسان و عدل، و منها ما نعلم
بقبحه و ترتب الذم و العقاب على فعله لصفته الذاتية القائمة به، كالإساءة و الجور
من حيث هما إساءة و جور، و العاقل يعلم أن ضرورة العقل قاضية بذلك، و ليس جزم
العقلاء بهذا أقل من جزمهم بكون الواحد نصف الاثنين، و البداهة الأولية قاضية
بالفرق بين من أحسن إليك دائما، و بين من أساء إليك دائما، إذ يستقل العقل بحسن
فعل الأول معك، و استحقاقه للثناء و الثواب منك، و قبح فعل الثاني و استحقاقه للذم
و القصاص، و المشكك في ذلك مكابر لعقله، و لو كان الحسن و القبح فيما ذكرناه
شرعيين لما حكم بهما منكر و الشرائع كالزنادقة و الدهرية، فإنهم مع إنكارهم
الأديان يحكمون بحسن العدل و الإحسان، و يرتّبون عليهما ثناءهم و ثوابهم، و لا
يرتابون في قبح الظلم و العدوان، و لا في ترتيب الذم و القصاص على فعلهما، و مستندهم
في هذا إنما هو العقل لا غير، فدع عنك قول من يكابر العقل و الوجدان، و ينكر ما
علمه العقلاء كافة، و يحكم بخلاف ما تحكم به فطرته التي فطر عليها، فإن اللّه
سبحانه فطر عباده على إدراك بعض الحقائق بعقولهم كما فطرهم على الإدراك بحواسهم و
مشاعرهم، ففطرتهم توجب أن يدركوا بعقولهم حسن العدل و نحوه، و قبح الظلم و نحوه،
كما يدركون بأذواقهم حلاوة العسل و مرارة العلقم، و يدركون بمشامهم طيب المسك و
نتن الجيف، و يدركون بملامسهم لين اللين و خشونة الخشن، و يميزون بأبصارهم بين
المنظرين الحسن و القبيح، و بأسماعهم بين الصوتين، صوت المزامير و صوت الحمير،
تلكفِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ