اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 360
الغامضة الدقيقة، أعجب طريقا في الخفاء من هذا. و إنك لتتعب في
الشيء نفسك، و تكدّ فيه فكرك، و تجهد فيه كل جهدك، حتى إذا قلت قتلته علما، و
أحكمته فهما، كنت بالّذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة، و يعرض فيه من شك، كما
قال أبو نواس: [من الطويل]
ألا لا أرى مثل امترائي في رسم
تغصّ به عيني و يلفظه وهمي
أتت صور الأشياء بيني و بينه
فظنّي كلا ظنّ، و علمي كلا علم
و إنّك لتنظر في البيت دهرا طويلا
و تفسّره، و لا ترى أنّ فيه شيئا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفيّ لم تكن قد
علمته، مثال ذلك بيت المتنبي: [من الكامل]
عجبا له! حفظ العنان بأنمل
ما حفظها الأشياء من عاداتها
مضى الدهر الطويل و نحن نقرؤه فلا
ننكر منه شيئا، و لا يقع لنا أن فيه خطأ، ثمّ بان بأخرة أنه قد أخطأ. و ذلك أنه
كان ينبغي أن يقول: «ما حفظ الأشياء من عاداتها»، فيضيف المصدر إلى المفعول، فلا
يذكر الفاعل، ذاك لأن المعنى على أنّه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، و أنه يزعم أنّه
لا يكون منها أصلا، و إضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله: «ما حفظها الأشياء»، و
يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظا.
و نظير هذا أنك تقول: «ليس الخروج
في مثل هذا الوقت من عادتي»، و لا تقول:
«ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي»، و كذلك تقول: «ليس ذمّ
النّاس من شأني»، و لا تقول: «ليس ذمّي الناس من شأني»، لأن ذلك يوجب إثبات الذّمّ
و وجوده منك. و لا يصحّ قياس المصدر في هذا على الفعل، أعني أنه لا ينبغي أن يظنّ
أنه كما يجوز أن يقال: «ما من عادتها أن تحفظ الأشياء»، كذلك ينبغي أن يجوز: «ما
من عادتها حفظها الأشياء»، ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي
[1] البيتان في ديوانه
[313] ، في باب الخمريات، و هما في مقدمة
سبعة أبيات و بعدهما:
فطب بحديث من نديم موافق
و ساقية سن المراهق للحلم
إذا هي قامت و السداسي طالها
و بين النحيف الجسم و الحسن الجسم
[2] البيت في ديوانه (1/ 231) من قصيدة في مدح أبي أيوب أحمد بن
عمران و مطلعها:
سرب محاسنه حرمت ذواتها
داني الصفات بعيد موصوفاتها
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي
بشرا رأيت أرق من عبراتها
و العنان: سير اللجام، الأنمل:
رءوس الأصابع.
اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 360