اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 35
و لو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة: «إنها خصوصية في نظم الكلم
و ضمّ بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة، أو على وجوه تظهر بها الفائدة»، أو ما أشبه
ذلك من القول المجمل، كافيا في معرفتها، و مغنيا في العلم بها، لكفى مثله في معرفة
الصناعات كلّها. فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التّصاوير أن تعلم أنه
ترتيب للغزل على وجه مخصوص، و ضمّ لطاقات الإبريسم بعضها إلى بعض على طرق شتّى. و
ذلك ما لا يقوله عاقل.
و جملة الأمر أنك لن تعلم في شيء
من الصّناعات علما تمرّ فيه و تحلي، حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب، و
يفصل بين الإساءة و الإحسان، بل حتّى تفاضل بين الإحسان و الإحسان، و تعرف طبقات
المحسنين.
و إذا كان هذا هكذا، علمت أنه لا
يكفي في علم «الفصاحة» أن تنصب لها قياسا ما، و أن تصفها وصفا مجملا، و تقول فيها
قولا مرسلا، بل لا تكون من معرفتها في شيء، حتى تفصّل القول و تحصّل، و تضع اليد
على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم و تعدّها واحدة واحدة، و تسمّيها شيئا شيئا، و
تكون معرفتك معرفة الصّنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في
الديباج، و كلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع، و كل آجرّة من الآجرّ
الذي في البناء البديع.
و إذا نظرت إلى «الفصاحة» هذا
النظر، و طلبتها هذا الطّلب، احنجت إلى صبر على التأمّل، و مواظبة على التدبّر، و
إلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتّمام، و أن تربع إلّا بعد بلوغ الغاية، و متى
جشمت ذلك، و أبيت إلا أن تكون هنالك، فقد أممت إلى غرض كريم، و تعرّضت لأمر
جسيم، و آثرت التي هي أتمّ لدينك و فضلك، و أنبل عند ذوي العقول الراجحة لك، و ذلك
أن تعرف حجّة اللّه تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها و أنوه لها، و أخلق بأن
يزداد نورها سطوعا، و كوكبها طلوعا، و أن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من
الشكّ، و أبعد من الرّيب؛ و أصحّ لليقين، و أحرى بأن يبلّغك قاصية التبيين.