اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 34
مكان الخبيء ليطلب، و موضع الدّفين ليبحث عنه فيخرج، و كما يفتح لك
الطريق إلى المطلوب لتسلكه، و توضع لك القاعدة لتبني عليها. و وجدت المعوّل على أن
هاهنا نظما و ترتيبا، و تأليفا و تركيبا، و صياغة و تصويرا، و نسجا و تحبيرا، و
أنّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه، سبيلها في الأشياء التي هي
حقيقة فيها، و أنه كما يفضل هناك النظم النظم، و التأليف التأليف، و النسج النسج،
و الصياغة الصياغة، ثم يعظم الفضل، و تكثر المزيّة، حتى يفوق الشيء نظيره و
المجانس له درجات كثيرة، و حتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام
بعضا، و يتقدّم منه الشيء الشيء، ثم يزداد فصله ذلك و يترقى منزلة فوق منزلة، و
يعلو مرقبا بعد مرقب، و يستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع
الأطماع، و تحسر الظنون، و تسقط القوى، و تستوي الأقدام في العجز.
و هذه جملة قد يرى في أوّل الأمر و
بادئ الظنّ، أنها تكفي و تغني، حتى إذا نظرنا فيها، وعدنا و بدأنا، وجدنا الأمر
على خلاف ما حسبناه، و صادفنا الحال على غير ما توهّمناه، و علمنا أنّهم لئن
أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى، و أن لم يغرقوا في النّزع، لقد أبعدوا على ذاك
في المرمى.
و ذاك أنّه يقال لنا: ما زدتم على
أن سقتم قياسا، فقلتم: نظم و نظم، و ترتيب و ترتيب، و نسج و نسج، ثم بنيتم عليه
أنه ينبغي أن تظهر المزيّة في هذه المعاني هاهنا، حسب ظهورها هناك، و أن يعظم
الأمر في ذلك كما عظم ثمّ، و هذا صحيح كما قلتم، و لكن بقي أن تعلمونا مكان
المزيّة في الكلام، و تصفوها لنا، و تذكروها ذكرا كما ينصّ الشيء و يعيّن، و يكشف
عن وجهه و يبيّن، و لا يكفي أن تقولوا: إنّه خصوصية في كيفية النظم، و طريقة
مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض، حتى تصفوا تلك الخصوصية و تبيّنوها، و تذكروا
لها أمثلة، و تقولوا: «مثل كيت و كيت»، كما يذكر لك من تستوصفه عمل الدّيباج
المنقّش ما تعلم به وجه دقّة الصنعة، أو يعمله بين يديك، حتى ترى عيانا- كيف تذهب
تلك الخيوط و تجيء؟ و ما ذا يذهب منها طولا و ما ذا يذهب منها عرضا؟ و بم يبدأ و
بم يثنّي و بم يثلّث؟- و تبصر من الحساب الدقيق و من عجيب تصرّف اليد، ما تعلم معه
مكان الحذق و موضع الأستاذية.
[1] حسر الشيء حسورا: انكشف و حسر البصر يحسره حسورا انحلّ و
انقطع من طول المدى.