اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 263
بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة. و ذلك أنّك إذا قلت: «ضرب زيد
عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له»، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كلّها على
مفهوم، هو معنى واحد لا عدّة معان، كما يتوهّمه الناس. و ذلك لأنك لم تأت بهذه
الكلم لتفيده أنفس معانيها، و إنما جئت بها لتفيده وجوه التعلّق التي بين الفعل
الذي هو «ضرب»، و بين ما عمل فيه، و الأحكام الّتي هي محصول التعلّق.
و إذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا
أن ننظر في المفعولية من «عمرو»، و كون «يوم الجمعة» زمانا للضرب، و كون «الضرب»
ضربا شديدا، و كون «التأديب» علّة للضرب، أ يتصوّر فيها أن تفرد عن المعنى الأوّل
الذي هو أصل الفائدة، و هو إسناد «ضرب» إلى «زيد»، و إثبات «الضرب» به له، حتى
يعقل كون «عمرو» مفعولا به، و كون «يوم الجمعة» مفعولا فيه و كون «ضربا شديدا»
مصدرا، و كون «التأديب مفعولا له من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلا للضرب؟
و إذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصوّر،
لأن «عمرا» مفعول لضرب وقع من زيد عليه، و «يوم الجمعة» زمان لضرب وقع من زيد، و
«ضربا شديدا» بيان لذلك الضرب كيف هو و ما صفته، و «التأديب» علة له و بيان أنه
كان الغرض منه. و إذا كان ذلك كذلك، بان منه و ثبت، أنّ المفهوم من مجموع الكلم
معنى واحد لا عدّة معان، و هو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا، و على صفة
كذا، و لغرض كذا. و لهذا المعنى قول إنّه كلام واحد.
و إذ قد عرفت هذا، فهو العبرة
أبدا. فبيت بشّار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم، و رأيته
قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصّانع حين يأخذ كسرا من الذهب فيذيبها ثم
يصبّها في قالب، و يخرجها لك سوارا أو خلخالا. و إن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت
عن بعض، كنت كمن يكسر الحلقة و يفصم السوار. و ذلك أنه لم يرد أن يشبّه «النّقع»
بالليل على حدة، و «الأسياف» بالكواكب على حدة، و لكنه أراد أن يشبّه النّقع و
الأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر الكواكب و تتهاوى فيه. فالمفهوم من
الجميع مفهوم واحد، و البيت من أوّله إلى آخره كلام واحد.
فانظر الآن ما تقول في اتّحاد هذه
الكلمة التي هي أجزاء البيت؟ أ تقول: إنّ ألفاظها اتّحدت فصارت لفظة واحدة؟ أم
تقول: إنّ معانيها اتّحدت فصارت الألفاظ