اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 172
و إنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية،
كنسج الدّيباج و صوغ الشّنف و السوار و أنواع ما يصاغ، و كلّ ما هو صنعة و عمل
يد، بعد أن يبلغ مبلغا يقع التفاضل فيه، ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع
زيادة يكون له بها صيت، و يدخل في حدّ ما يعجز عنه الأكثرون.
و هذا القياس، و إن كان قياسا
ظاهرا معلوما، و كالشيء المركوز في الطّباع، حتى ترى العامّة فيه كالخاصّة، فإنّ
فيه أمرا يجب العلم به: و هو أنه يتصوّر أن يبدأ هذا فيعمل ديباجا و يبدع في نقشه
و تصويره، فيجيء آخر و يعمل ديباجا آخر مثله في نقشه و هيئته و جملة صفته، حتى لا
يفصل الرائي بينهما، و لا يقع لمن لم يعرف القصّة و لم يخبر الحال إلّا أنّهما
صنعة رجل واحد، و خارجان من تحت يد واحدة.
و هكذا الحكم في سائر المصنوعات
كالسّوار يصوغه هذا، و يجيء ذاك فيعمل سوارا مثله، و يؤدّي صفته كما هي، حتى لا
يغادر منها شيئا البتّة.
و ليس يتصوّر مثل ذلك في الكلام،
لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشّعر، أو فصل من النثر، فتؤدّيه
بعينه و على خاصّيته و صفته بعبارة أخرى، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من
تلك، لا يخالفه في صفة و لا وجه و لا أمر من الأمور. و لا يغرّنّك قول الناس: «قد
أتى بالمعنى بعينه، و أخذ معنى كلامه فأدّاه على وجه»، فإنه تسامح منهم، و المراد
أنه أدّى الغرض، فأمّا أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام
الأوّل، حتى لا تعقل هاهنا إلا ما عقلته هناك، و حتى يكون حالهما في نفسك حال
الصّورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين و الشّنفين، في غاية الإحالة، و ظنّ يفضي
بصاحبه إلى جهالة عظيمة، و هي أن تكون الألفاظ مختلفة المعاني إذا فرّقت، و
متّفقتها إذا جمعت و ألّف منها كلام. و ذلك أن ليس كلامنا فيما يفهم من لفظتين
مفردتين نحو «قعد» و «جلس»، و لكن فيما فهم من مجموع كلام و مجموع كلام آخر، نحو
أن تنظر في قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: 179]، و قول الناس: «قتل البعض إحياء للجميع»، فإنّه و إن كان قد جرت
عادة الناس بأن يقولوا في مثل هذا: «إنهما عبارتان معبّرهما واحد»، فليس هذا القول
قولا يمكن الأخذ بظاهره، أو يقع لعاقل شكّ أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم
من الآخر.
[1] الشنف: القرط الأعلى أو معلاق في قوف الأذن أي: أعلى الأذن.
القاموس/ شنف/
[1067] .
اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 172