اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 162
تولّوا بغتة، فكأن بينا
تهيّبني، ففاجأني اغتيالا
فكان مسير عيسهم ذميلا،
و سير الدّمع إثرهم انهمالا
قوله: «فكان مسير عيسهم»، معطوف
على «تولّوا بغتة»، دون ما يليه من قوله: «ففاجأني»، لأنا إن عطفناه على هذا الذي
يليه أفسدنا المعنى، من حيث أنه يدخل في معنى «كأنّ»، و ذلك يؤدي إلى أن لا يكون
مسير عيسهم حقيقة، و يكون متوهّما، كما كان تهيّب البين كذلك.
و هذا أصل كبير. و السبب في ذلك أن
الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا، و بين المعطوف عليها الأولى، ترتبط في
معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أنّ قوله: «فكأنّ بينا تهيّبني»، مرتبط بقوله:
«تولوا بغتة»، و ذلك أن الثانية مسبّب و الأولى سبب. أ لا ترى أن المعنى: «تولوا
بغتة فتوهمت أنّ بينا تهيّبني؟» و لا شك أن هذا التوهّم كان بسبب أن كان التّولّي
بغتة. و إذا كان كذلك، كانت مع الأولى كالشيء الواحد، و كان منزلتها منها منزلة
المفعول و الظّرف و سائر ما يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل، مما لا يمكن
إفراده عن الجملة، و أن يعتدّ كلاما على حدته.
و هاهنا شيء آخر دقيق، و هو أنك
إذا نظرت إلى قوله: «فكان مسير عيسهم ذميلا»، وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف
عليه، و لكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوّله. أ لا ترى أن الغرض
من هذا الكلام أن يجعل تولّيهم بغتة، و على الوجه الذي توهّم من أجله أن البين
تهيّبه، مستدعيا بكاءه، و موجبا أن ينهمل دمعه، فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا
ليذكر هملان الدمع، و أن يوفّق بينهما.
و كذلك الحكم في الأوّل، فنحن و إن
كنا قلنا إن العطف على «تولوا بغتة»، فإنّا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعا عما
بعده، بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره، و إنما أردنا بقولنا «إن العطف
عليه»، أن نعلمك أن الأصل
[1] البيتان في ديوانه (1/ 183) من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن
عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، و قبلهما:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا
و حسن الصبر زموا لا الجمالا
تولوا: أدبروا. البغتة: الفجأة.
تهيبني: هابني. اغتيال: أخذ المرء من حيث لا يدري. العيس:
الإبل. انهمالا: انسكابا.
الذميل: ضرب من السير سريع ..
اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 162