تأکل
ما تستلذ به فی الحال و یضرها فی ثانی الحال، فتمرض و تموت، اذ لیس لها
الا الإحساس بالحاضر، و اما ادراک العواقب فلیس لها إلیه سبیل. فیتوقف
تمییز صلاح العواقب و فسادها علی قوة أخری. فخلق اللّه للانسان العقل، به
یدرک مضرة الأطعمة و منفعتها فی المآل، و به یدرک کیفیة طبخ الأطعمة و
ترکیبها و اعداد أسبابها، فینتفع بعقله فی الأکل الذی هو سبب صحته، و هو
اخس فوائد العقل و أقل الحکم فیه، اذ الحکم و الفوائد المترتبة علیه أکثر
من ان تحصی، و أعظم الحکم فیه معرفة اللّه و معرفة صفاته و افعاله. و العقل
بمنزلة السلطان فی مملکة البدن، و الحواس الخمس کالجواسیس و أصحاب الاخبار
و الموکلین بنواحی المملکة، و قد وکل کل واحد منها بامر خاص. فواحدة
بأخبار الالوان، و أخری بأخبار الأصوات، و أخری بأخبار الروائح، و أخری
بأخبار الطعوم، و أخری بأخبار الحر و البرد و الخشونة و الملاسة و اللین و
الصلابة. فهذه الجواسیس یقتنصون الاخبار من أقطار المملکة، و یسلمونها إلی
الحس المشترک، و هو قاعد فی مقدمة الدماغ، مثل صاحب الکتب و القصص علی باب
الملک، یجمع القصص و الکتب الواردة من نواحی العالم، و یأخذها و یسلمها إلی
العقل الذی هو السلطان مختومة، اذ لیس له الا أخذها و حفظها، و اما معرفة
حقائق ما فیها فلیس الیه. و لکن إذا صادف القلب العاقل الذی هو الأمیر و
الملک، سلم، لانها آتیة إلیه مختومة، فیفتشها الملک و یطلع علی أسرار
المملکة، و یحکم فیها بأحکام عجیبة لا یمکن استقصاؤها. و بحسب ما یلوح له
من الاحکام و المصالح یحول الجنود- اعنی الأعضاء- فی الطلب او الهرب او
إتمام التدبیرات التی تعن له. ثم عجائب حکم العقل و الأسباب التی یتوقف
خلقه علیها لیس درکها فی مقدرة البشر، و هذه ما یتوقف علیه الأکل من
الادراکات و أسبابها.