فغلبني الضحك، و أمرت به
فتنحّى، و جهدت به أن يغني، فامتنع حتى حلفت له بحياتك يا أمير المؤمنين أنى أفرش
له داره، و خدعته فلم أسمّ له ما أفرشها به، فقال الرشيد: طيّب و اللّه! الآن تمّ
لنا به اللهو، و هو ذا أدعو به، فإذا رآك فسوف يقتضيك الفرش، لأنك حلفت له بحياتي،
فهو يتنجّز ذلك بحضرتي ليكون أوثق له، فقل له: أنا أفرشها لك بالبواري [1]، و
حاكمه إليّ. ثم دعا به فأحضر، فما استقرّ في مجلسه حتى قال لجعفر بن يحيى: الفرش
الّذي حلفت لي بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري، تقدّم فيه، فقال له جعفر:
اختر، إن شئت فرشتها لك بالبواري، و إن شئت بالبرديّ من الحصر، فضج و اضطرب.
فقال له الرشيد: و كيف
كانت القصة؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة، إذ لم تسمّ النوع و لا حدّدت
القيمة، فإذا فرشها لك بالبواري أو بالبرديّ أو بما دون ذلك فقد و في يمينه، و
إنما خدعك، و لم تفطن له أنت، و لا توثقت، و ضيّعت حقك. فسكت،/ و قال: نوفّر
البرديّ و البواريّ عليه أيضا، أعزه اللّه. و غنى المغنون حتى انتهى إليه الدور،
فأخذ يغني غناء الملّاحين و البنائين و السقائين و ما جرى مجراه من الغناء، فقال
له الرشيد: أيش هذا الغناء ويلك! قال: من فرشت داره بالبواري و البردي فهذا الغناء
كثير منه، و كثير أيضا لمن هذه صلته، فضحك الرشيد و اللّه و طرب و صفّق، ثم أمر له
بألف دينار من ماله و قال له: افرش دارك من هذه، فقال: و حياتك لا آخذها يا سيدي
أو تحكم لي على جعفر بما وعدني، و إلّا متّ و اللّه أسفا لفوات ما حصل في طمعي و
وعدت به، فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار، فقبلها جعفر، و أمر له بها.
قصة وصوله إلى السلطان
أخبرني محمد بن مزيد، قال:
حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان سبب وصول أبي صدقة إلى السلطان أنّ أبي
لما حجّ مرّ بالمدينة، فاحتاج إلى قطع ثياب، فالتمس خياطا حاذقا، فدلّ على أبي
صدقة، و وصف به بالحذق في الخياطة و الحذق في الغناء و خفة الروح، فأحضره فقطع له
ما أراد و خاطه، و سمع غناءه فأعجبه؛ و سأله عن حاله، فشكا إليه الفقر، فخلّف
لعياله نفقة سابغة لسنة، ثم أخذه معه و خلطه بالسلطان.
قال [2] حماد: فقال أبو
صدقة يوما لأبي: قد اقتصرت بي [3] على صنعة أبي إسحاق أبيك، رحمه اللّه عندي، و
أنت لا، ربّ [4] ذلك بشيء، فقال له: هذه الصينيّة الفضة الّتي بين يديّ لك إذا
انصرفت، فشكره و سرّ بذلك، و لم يزل يغنيه بقية يومه، فلما أخذ النبيذ فيه قام
قومة ليبول، فدعا أبي بصينية رصاص فحول قنّينته و قدحه فيها، و رفع الصينية الفضة،
فلما أراد أبو صدقة الانصراف شد أبي الصينية في منديل، و دفعها إلى غلامه، و قال
له: بت الليلة عندي و اصطبح غدا، و اردد دابتك. فقال: إني إذا/ لأحمق، أدفع إلى
غلامي صينية فضة، فيأخذها و يطمع فيها أو يبيعها، و يركب الدابة و يهرب، و لكني
أبيت عندك، فإذا انصرفت غدا أخذتها معي، و بات و أصبح عندنا مصطبحا، فلما كان وقت
انصرافه أخذها و مضى، فلم يلبث من غد أن جاءنا و الصينية معه، فإذا هو قد وجّه بها
لتباع، فعرّفوه أنها رصاص، فلما رآه أبي من بعيد ضحك، و عرف القصة، و تماسك، فقال
له أبو صدقة: نعم الخلافة خلفت