فلما عيل صبره أخذ
الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد، و قال له: هاكها قد رددتها عليك و زدتك فرج أمّ
صدقة فطلّقها إن شئت واحدة، و إن شئت ألفا. و إن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني
بجائزة هذا البارد ابن الباردة عمرو الغزّال [1]، و كانت صلته ألف دينار. فضحك
الرشيد حتى استلقى، ثم ردّ عليه الخمسمائة الدينار، و أمر له بألف دينار معها. و
كان ذلك أكثر ما أخذه منه مذ يوم خدمه إلى أن مات، فانصرف يومئذ بألف و خمسمائة دينار.
عبث جعفر بن يحيى و
الرشيد به
أخبرني رضوان بن أحمد،
قال: حدّثني يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو إسحاق، قال:
/ مطرنا
و نحن مع الرشيد بالرّقة مطرا مع الفجر، و اتصل إلى غد ذلك اليوم، و عرفنا خبر
الرشيد، و أنه مقيم عند أمّ ولده المسماة بسحر، فتشاغلنا في منازلنا. فلما كان من
غد جاءنا رسول الرشيد، فحضرنا جميعا، و أقبل يسأل واحدا واحدا عن يومه الماضي: ما
صنع فيه فيخبره، إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره، فقال: كان عندي
أبو زكّار الأعمى و أبو صدقة، فكان أبو زكار كلما غنّى صوتا لم يفرغ منه حتى يأخذه
أبو صدقة، فإذا انتهى الدور إليه أعاده، و حكى أبا زكار فيه و في شمائله و حركاته،
و يفطن أبو زكار لذلك فيجن و يموت غيظا، و يشتم أبا صدقة كلّ شتم حتى يضجر، و هو
لا يجيبه و لا يدع العبث به، و أنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشراب و سئمنا من
العبث به، فقلت له: دع هذا و غنّ غناءك، فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، طربت له- و
اللّه يا أمير المؤمنين- طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين، و هو:
صوت
فتنتني بفاحم اللون
جعد
و بثغر كأنه نظم درّ
و بوجه كأنه طلعة
البد
ر و عين في طرفها نفث سحر
فقلت له: أحسنت و اللّه يا
أبا صدقة، فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي: إني قد بنيت دارا حتى أنفقت [2]
عليها حريبتي [3]، و ما أعددت لها فرشا، فافرشها لي، نجّد [4] اللّه لك في الجنة
ألف قصر. فتغافلت عنه، و عاود الغناء، فتعمدت أن قلت له: أحسنت، ليعاود مسألتي و
أتغافل عنه، فسألني و تغافلت، فقال لي: يا سيدي هذا التغافل متى حدث لك؟/ سألتك
باللّه، و بحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي و لو بشتم! فأقبلت عليه و قلت له:
أنت و اللّه بغيض، اسكت يا بغيض، و اكفف عن هذه المسألة الملحّة، فوثب من بين
يديّ، و ظننت أنه خرج لحاجة، و إذا هو قد نزع ثيابه و تجرد منها خوفا من أن تبتلّ،
و وقف تحت السماء، لا يواريه منها شيء و المطر يأخذه، و رفع رأسه و قال: يا ربّ
أنت تعلم أني مله، و لست نائحا، و عبدك هذا الّذي رفعته و أحوجتني إلى خدمته يقول
لي: أحسنت، لا يقول لي: أسأت، و أنا منذ جلست أقول له: بنيت، لم أقل: هدمت، فيحلف
بك جرأة عليك أني بغيض، فاحكم بيني و بينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين.