و جعلت نفقا آخر في
البرّيّة متّصلا بمدينة لأختها، ثم أجرت الماء عليه، فكانت إذا خافت عدوّا دخلت
النفق. فلما اجتمع لها أمرها و استحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة بأبيها،
فقالت لها أختها و كانت ذات رأي و حزم:
إنّك إن غزوت جذيمة فإنّه
امرؤ له ما يصدّه، فإن ظفرت أصبت ثأرك، و إن ظفر بك فلا بقيّة لك، و الحرب سجال،/
و لا تدرين كيف تكون [1] أ لك أم عليك، و لكن ابعثي إليك فأعلميه أنّك قد رغبت في
أن تتزوّجيه و تجمعي ملكك إلى ملكه، و سليه أن يجيبك إلى ذلك، لأنّه إن اغتر ففعل
ظفرت به بلا مخاطرة. فكتبت الزباء في ذلك إلى جذيمة تقول له: إنها قد رغبت في صلة
بلدها ببلده، و إنّها في ضعف من سلطانها، و قلّة ضبط لمملكتها، و إنها لم تجد كفؤا
غيره، و تسأله الإقبال عليها و جمع ملكها إلى ملكه. فلما/ وصل ذلك إليه استخفّه و
طمع فيه، فشاور أصحابه فكلّ صوّب رأيه في قصدها و إجابتها، إلّا قصير بن سعد بن
عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال [2] بن نمارة بن لخم، فقال: هذا رأي فاتر، و غدر
حاضر، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك و إلّا فلا تمكنها من نفسك فتقع في حبالها و قد
وترتها في أبيها. فلم يوافق جذيمة ما قال و قال له: «أنت أمرؤ رأيك في الكنّ لا في الضّحّ» [3]. و رحل فقال له
قصير في طريقة: «انصرف و دمك في وجهك. فقال جذيمة: «ببقّة قضي الأمر» فأرسلها مثلا. و مضى حتّى إذا شارف
مدينتها قال لقصير: ما الرأي؟ قال: «ببقّة تركت الرأي». قال: فما ظنّك بالزباء؟ قال: «القول رداف، و الحزم عيرانة
لا تخاف» [4]. و استقبله رسلها بالهدايا و الألطاف فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال «خطر يسير في خطب كبير» [5]،
و ستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، و إن أخذت في جنبيك و أحاطت بك
فالقوم غادرون. فلقيته الخيول فأحاطت به، فقال له قصير: اركب العصا فإنّها لا تدرك
و لا تسبق- يعني فرسا له كانت تجنب- قبل أن يحولوا بينك و بين جنودك. فلم يفعل،
فجال قصير في ظهرها فمرّت به تعدو في أوّل أصحاب جذيمة. و لما أحيط بجذيمة التفت
فرأى قصيرا على فرسه العصا في أوّل القوم، فقال: «لحازم من يجري العصا [6] في أوّل القوم». فذكر/ أبو عبيدة و
الأصمعي أنها لم تكن تقف، حتّى جرت ثلاثين ميلا، ثم وقفت فبالت هناك، فبني على ذلك
الموضع برج يسمّى العصا- و أخذ جذيمة فأدخل على الزباء فاستقبلته قد كشفت عن
فرجها، فإذا هي قد ضفرت الشعر عليه، فقالت: يا جذيم أ ذات عروس ترى؟ قال: بل أرى
متاع أمة لكعاء غير ذات خفر. ثم قال:
«بلغ المدى، و جفّ الثّرى، و
أمر غدر أرى. قالت: و اللّه ما ذلك من عدم مواس [7]، و لا قلة أواس [8]، و لكنّها
شيمة ما أناس [9]. ثم قالت لجواريها: خذن بعضد سيّدكنّ. ففعلن ثم دعت بنطع فأجلسته
عليه، و أمرت برواهشه [10]
[3]
الكن: ما يرد الحر و البرد من الأبنية
و المساكن. و الضح: كل ما أصابته الشمس.
[4]
الرداف: جمع ردف، و هو الذي يركب خلف
الراكب. و العيرانة: الناقة السريعة في نشاط. أراد أن الحزم يمضي في شأنه في ثقة و
لا يعبأ بالقول، بل ربما حطمه. و كلمة «لا» ساقطة من ب، س و «الميداني»، إذ فيها «عثراته تخاف»، و في ح «عيران لا يخاف»، و في م، أ:
«عراف لا يخاف».
[6]
في ب، س «الحازم». ها، مب «لحازم ما تجري» و في سائر الأصول «ما يجري». و في «مروج الذهب»: (2: 94) «ما ضل من تجري به العصا». و في «الميداني»: «ويل أمه حزما على متن العصا».