فقال الرجلان: و من أنت؟
فقال: «إن تنكراني أو تنكرا نسبي،
فإنّني عمرو و عديّ أبي» [1]، فقاما إليه فلثماه، و غسلا رأسه و قلّما أظفاره، و
قصّرا من لمّته، و ألبساه من طرائف ثيابهما و قالا: ما كنا لنهدي إلى الملك هديّة
أنفس عنده و لا هو عليها أحسن صفدا [2] من ابن أخته، فقد ردّه اللّه عز و جل إليه.
فخرجا حتّى إذا دفعا إلى باب الملك [3] بشّراه به، فصرفه إلى أمّه، فألبسته ثيابا
من ثياب الملوك، و جعلت في عنقه طوقا كانت تلبسه إيّاه و هو صغير، و أمرته بالدخول
على خاله، فلما رآه قال: «شبّ عمرو عن الطوق» فأرسلها مثلا. و قال للرجلين اللذين
قدما به: احكما فلكما حكمكما. قالا: منادمتك ما بقيت و بقينا. قال: ذلك لكما. فهما
نديما جذيمة اللذان ذكرهما متمّم، و ضربت بهما الشعراء المثل. قال أبو خراش
الهذلي:
أ لم تعلمي أن قد
تفرّق قبلنا
خليلا صفاء مالك و عقيل
قال ابن حبيب في خبره [4]:
و كان جذيمة من أفضل الملوك رأيا، و أبعدهم مغارا، و أشدّهم نكاية، و هو أوّل من
استجمع له الملك بأرض العراق، و كانت منازله ما بين الأنبار و بقّة و هيت و عين
التمر، و أطراف البر و القطقطانة [5] و الحيرة، فقصد في جموعه/ عمرو بن الظّرب بن
حسان [6] بن أذينة بن السميدع بن هوبر [7] العاملي، من عاملة العماليق [8]، فجمع
عمرو جموعه و لقيه، فقتله جذيمة و فضّ جموعه، فانفلّوا [9] و ملّكوا عليهم ابنته
الزبّاء، و كانت من أحزم الناس، فخافت أن تغزوها ملوك العرب فاتّخذت لنفسها نفقا
في حصن كان لها على شاطئ الفرات، و سكرت [10] الفرات في وقت قلّة الماء، و بنت
أزجا [11] من الآجرّ و الكلس، متصلا بذلك النفق،
[1]
جاء هذا الكلام في الأصول على هيئة
الشعر، و لا بتقيم وزنه، و في «مروج الذهب» «إن تنكراني فلن تنكرا حسبي، أنا عمرو بن عدي».