قلنا: علمنا بانتفاء ما لا
ندركه ممّا ذكرناه حاصل لنا من طريق الإدراك.
و معنى قولنا: «إنّ علمنا
بانتفاء ما لا ندركه من المدركات الجليّة من طريق الإدراك»، أنّا إنّما نعلم
انتفاءها إذا أدركنا المدركات التي بحضرتنا، فإذا أدركناها و نظرنا فلم ندرك سواها
عند ذلك علمنا انتفاء ما عداها ممّا يجري مجراها، و على هذا علمنا وجوب هذا العلم
لنا حتّى صار معدودا في كمال العقل، فهذا معنى قولنا: «هذا العلم حاصل لنا من طريق
الادراك»، و إذا كان كذلك فهو مستند إلى العلم بأنّه لو كان هاهنا مدرك آخر يجري
مجرى ما ذكرناه، لوجب أن ندركه.
فمن أفسد على نفسه هذا
العلم، و زعم أنّه لا يعلم ما ذكرناه من وجوب كونه مدركا لما يحضره من المدركات
الجليّة، يلزمه فساد فرعه: و هو أن لا يعلم انتفاء ما لا يدركه.
و بيان ذلك أن الضرير لما
لم يعلم وجوب أن يدرك ما يحضره من المدركات لم يعلم انتفاء ما لا يدركه بحضرته
بسبب أنّه لا يدركه و لم يكن علمه بانتفاء ما لا يدركه من جملة كمال عقله. و كذلك
فأحدنا لمّا لم يعلم وجوب أن يدرك ملكا أو جنّيا بحضرته لم يعلم انتفاءه عن حضرته
بسبب أنّه لا يدركه.
فإن قيل: كيف تزعمون أنّ
العلم بانتفاء ما لا ندركه ممّا ذكرتموه مبنىّ على العلم بأنّه لو كان لوجب أنّ
ندركه، و من الجائز بالاتفاق أن يخلق اللّه تعالى في قلب الأعمى العلم بأنّه ليس
بحضرته جسم كثيف سوى ما هو حاضر عنده.
و لا شكّ في أنّ الأعمى لا
يعلم أنّه لو حضره لأدركه، فإذن أمكن حصول العلم الذي جعلتموه فرعا من دون حصول ما
جعلتموه أصلا.
قلنا: نحن لم ندّع أنّ
العلم بالانتفاء فرع على العلم بأنّه لو حضره لأدركه مطلقا، بل قلنا: العلم
بانتفاء ما لا ندركه فرع على العلم بأنّه لو كان لأدركناه إذا