اسم الکتاب : الأربعين في اصول الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 69
رخّص رسول اللّه صلى اللّه
عليه و سلم في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد الإصلاح، و الرجل
يقول القول في الحرب، و الرجل يحدث امرأته». و هذا لأن أسرار الحرب لو وقف عليها
العدوّ اجترأ، و أسرار الزوج لو وقفت عليها المرأة نشأ منها فساد أعظم من فساد
الكذب، و كذلك المتخاصمان تدوم بينهما المعصية و العداوة، فإذا أمكن الإصلاح بكذب،
فذلك أولى. فهذا ما ورد فيه الخبر. و ما في معناه: كذب الإنسان ليستر مال غيره عن
ظالم، أو إنكاره لسر غيره، بل إنكاره لمعصية نفسه عن غيره، فإن المجاهرة بالفسق و
إظهاره حرام، و إنكاره جناية نفسه على غيره لتطيّب قلبه، و كذلك إنكاره مع زوجته
أن تكون ضرّتها أحبّ إليه، و كل ذلك يرجع إلى دفع المضرّات. و لا يباح لجلب زيادة
مال و جاه، و فيه يكون كذب أكثر الناس. ثم إذا اضطر إلى الكذب فليعدل إلى
المعاريض[1] ما أمكن حتى لا يعتاد نفسه الكذب.
كان إبراهيم بن أدهم إذا
طلب في الدار قال لخادمته: قولي له اطلبه في المسجد.
و كان الشعبي يخطّ دائرة،
و يقول لخادمته: «ضعي الإصبع فيها، و قولي: ليس هاهنا».
و كان بعضهم يعتذر عن
الأمير و يقول: منذ فارقتك ما رفعت جنبي من الأرض إلا ما شاء اللّه تعالى. و كان
بعضهم ينكر ما قال فيقول: إن اللّه ليعلم ما قلت من ذلك من شيء، فيوهم النفي بحرف
«ما» و هو يريد غير ذلك[2].
و تباح المعاريض لغرض خفيف، لقوله صلى اللّه عليه و سلم: «لا تدخل الجنة عجوز، و
نحملك على ولد البعير، و في عيني زوجك بياض» لأن هذه الكلمات أوهمت خلاف ما أراد،
فيباح مثل ذلك مع النساء و الصبيان لتطييب قلوبهم بالمزاح. و كذلك من يمتنع عن أكل
الطعام فلا ينبغي أن يكذب و يقول: لا أشتهي إذا كان يشتهي، بل يعدل إلى المعاريض؛
قال النبي عليه السلام لامرأة قالت ذلك: «لا تجمعي كذبا و جوعا».
الآفة الثانية الغيبة:
قال اللّه تعالى: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً
فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12]. و قال عليه السلام: «الغيبة أشد من الزنا»، و أوحى
اللّه تعالى إلى موسى- عليه السلام-: «من مات تائبا من الغيبة فهو آخر من يدخل
الجنة، و من مات
[1] المعاريض: جمع
معراض، و هو التورية بالكلام يقول شيئا و يعني شيئا آخر.
[2] يريد: إن اللّه
ليعلم الذي قلت من ذلك. فتكون «ما» ضمير بمعنى «الذي».
اسم الکتاب : الأربعين في اصول الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 69