و لما تقاربت سنه (صلّى اللّه عليه و سلم) الأربعين، و كانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه و بين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق و الماء و يذهب إلى غار حراء في جبل النور، على مبعدة نحو ميلين من مكة- و هو غار لطيف طوله أربعة أذرع، و عرضه ذراع و ثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد- و معه أهله قريبا منه، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، و يقضي وقته في العبادة و التفكير فيما حوله من مشاهد الكون، و فيما وراءها من قدرة مبدعة، و هو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، و تصوراتها الواهية، و لكن ليس بين يديه طريق واضح، و لا منهج محدد، و لا طريق قاصد يطمئن إليه و يرضاه [1].
و كان اختياره (صلّى اللّه عليه و سلم) لهذه العزلة طرفا من تدبير اللّه له، و ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم. و لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى ...
لا بد لهذه الروح من خلوة و عزلة بعض الوقت، و انقطاع عن شواغل الأرض و ضجة الحياة، و هموم الحياة، و هموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
و هكذا دبر اللّه لمحمد (صلّى اللّه عليه و سلم) و هو يعده لحمل الأمانة الكبرى، و تغيير وجه الأرض، و تعديل خط التاريخ: دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، و يتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عند ما يأذن اللّه [2].
جبريل ينزل بالوحي
و لما تكامل له أربعون سنة- و هي رأس الكمال، و قيل: و لها تبعث الرسل- بدأت آثار النبوة تتلوح و تتلمع له من وراء آفاق الحياة، و تلك الآثار هي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا
[1] رحمة للعالمين 1/ 47، و ابن هشام 1/ 235، 236، في ظلال القرآن الجزء 29/ 166.