responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : البيان و التبيين المؤلف : الجاحظ    الجزء : 2  صفحة : 39

خطبة من خطب معاوية (ر)

رواها شعيب بن صفوان، و زاد فيها البقطريّ و غيره، قالوا: لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له: من بالباب؟قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك. فقال: ويحك، و لم؟قال: لا أدري، قال: فو اللّه ما لهم بعدي إلا الذي يسوؤهم. و أذن للناس فدخلوا، فحمد و أثنى عليه و أوجز ثم قال:

أيها الناس، أنا قد أصبحنا في دهر عنود [1] ، و زمن شديد، يعدّ فيه المحسن مسيئا، و يزداد فيه الظالم عتوا، و لا ننتفع بما علمناه، و لا نسأل عما جهلناه، و لا نتخوف قارعة حتى تحلّ بنا. فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، و كلال حدّه، و نضيض وفره‌ [2] . و منهم المصلت لسيفه، المجلب بخيله و رجله، المعلن بسره، قد أشرط لذلك نفسه، و أوبق دينه، لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه‌ [3] ، و لبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا، و مما لك عند اللّه عوضا.

و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، و قارب من خطوه و شمّر من ثوبه، و زخرف نفسه للأمانة، و اتخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية. و منهم من أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، و انقطاع من سببه، فقصرت به الحال عن أمله. فتحلى باسم القناعة، و تزين بلباس الزهادة و ليس من ذلك في مراح و لا مغدى. و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ [4] ، و خائف منقمع، و ساكت مكعوم، وداع مخلص، و موجع ثكلان، قد أخملتهم التقية، و شملتهم الذلة، فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامزة [5] ، و قلوبهم قرحة، و قد وعظوا حتى ملوا، و قهروا حتى ذلوا، و قتلوا حتى قلوا. فلتكن الدنيا في


[1] عنود: جائر.

[2] نضيض وفره: قليل ماله. أشرط نفسه: أعدها.

[3] يفرع: يعلو.

[4] ناد: نافر.

[5] ضامزة: ساكنة.

اسم الکتاب : البيان و التبيين المؤلف : الجاحظ    الجزء : 2  صفحة : 39
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست