اسم الکتاب : البيان و التبيين المؤلف : الجاحظ الجزء : 2 صفحة : 229
اظن الذي أقعدك عن تناول الحظ، مع قرب مجناه، حتى صار لا يثنيك زجر الوعيد، و لا يكدح في عزماتك فوت الجنة، و حتى ثقلت على سمعك الموعظة، و نبت عن قلبك العبرة إلا طول مجاورة التقصير، و اعتياد الراحة، و الأنس بالهوينى، و ايثار الأخف، و ألف قرين السوء. فاذكر الموت و أدم الفكرة فيه، فإن من لم يعتبر بما يرى لم يعتبر بما لا يرى. و إنّ كل ما يوجد بالعيان من مواقع العبرة لا يكشف لك عن قبيح ما أنت عليه، و هجنة ما أصبحت فيه، من إيثار باطلك على حق اللّه، و اختيار الوهن على القوة، و التفريط على الحزم، و الإسفاف إلى الدون، و اصطناع العار، و التعرض للمقت، و بسط لسان العائب-فمستنبطات الغيب أحرى بالعجز عن تحريكك، و نقلك عن سوء العادة التي آثرتها على ربك. فاستحي للبّك، و استبق ما أفضل الخذلان من قوتك، قبل أن يستولي عليك الطبع، و يشتدّ بك العجز. أ و ما علمت أن المعصية تثمر المذلة، و تفلّ غرب اللسان، مع السلاطة. بل ما علمت أن المستشعر بذل الخطيئة، المخرج نفسه من كنف العصمة، المتحلي بدنس الفاحشة، نظف [1] الثناء، زمر المروءة [2] ، قصيّ المجلس، لا يشاور و هو ذو بزلاء [3]
و لا يصدر و هو جميل الرّواء، يسالم من كان يسطو عليه، و يضرع لمن كان يرغب إليه. يجذل بحاله المبغض الشانئ، و يثلب بقربه القريب الداني، غامض الشخص ضئيل الصوت، نزر الكلام متلجلج الحجة، يتوقع الإسكات عند كل كلمة، و هو يرى فضل مزيته و صريح لبه، و حسن فضيلته، و لكن قطعه سوء ما جنى على نفسه. و لو لم تطلع عليه عيون الخليقة لهجست العقول بأذهانه. و كيف يمتنع من سقوط القدر و ظن المتفرس، من عري عن حلية التقوى، و سلب طابع الهدى. و لو لم يتغشّه ثوب سريرته، و قبيح ما احتجن [4]
إليه من مخالفته ربّه، لا ضرعته الحجة [5] و لفسخه وهن الخطيئة، و لقطعه العلم