فالقول عندى فى
هذه الأبيات أنها لو كانت عدَّتُها ثلاثة لكان الخطب فيها أيسر ؛ وذلك لأنك كنت
تجعل واحدًا منها من رؤية العين كقولك : كما تُبصر ، والآخر من رؤية القلب التى فى
معنى العلم ؛ فيصير كقولك : كما تعلم. والثالثُ من : رأيتُ ، التى بمعنى الرأْىِ والاعتقادِ ، كقولك : فلانٌ يرى رأى أهل العدل ، وفلان يرى
رأى الشُّراة أى :
يعتقد اعتقادهم. ومنه قول الله سبحانه (لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] فحاسة البصر هنا لا تتوجَّهُ ، ولا يجوز أن يكون بما أعلمك
الله ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب تعدّيه إلى ثلاثة مَفْعولين [٢] ، وليس هناك
إلا مفعولان : أحدهما : الكاف فى أراك
، والآخر : الضمير
المحذوف للغائب أى أراكه
، وإذا تعدت أرى هذه إلى مفعولين : لم يكن من الثالث بدٌّ ، أو لا تراك تقول : فلان يرى
رأى الخوارج ، ولا
تعنى أنه يعلم ما يدَّعون هم علمه ، وإنما تقول : إنه يعتقد ما يعتقدون ، وإن كان
هو وهم عندك غير عالمين بأنهم على الحق ، فهذا قسمٌ ثالث لرأيت ؛ فلذلك قلنا : لو كانت الأبيات ثلاثة لجاز أن لا يكون
فيها إيطاء لاختلاف المعانى ، وإن اتفقت الألفاظ ، وإذ هى خمسة فظاهِرُ أمرِها أن
تكون إيطاءً لاتفاق الألفاظ والمعانى جميعًا.
ولو قال قائل :
إنه لا إيطاء هناك لرأيت
له وجهًا من القياس
مستقيمًا ليس به بأس ؛ وذلك أن العرب قد أجرت الموصول والصلّة مُجْرَى الشىء
الواحد ، ونزلتهما منزلة الجزء المنفرد ، وذلك نحو قول الله عزوجل : (وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي
يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٧٩ ـ ٨٢]. إنما معناه : الذى هو يطعمنى ويسقين ، وإذا مرضت فهو
يشفين ، ويميتنى ويحيين وأطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين ؛ لأنه ـ سبحانه ـ هو
الفاعل لهذه الأشياء كلّها وحده ، والشىء لا يعطف على نفسه ، ولكن لما كانت الصلّة
والموصول كالجزء