اسم الکتاب : المنتظم في تاريخ الأمم و الملوك المؤلف : ابن الجوزي الجزء : 8 صفحة : 120
قال أبو عامر: فقمت مع الرسول حتى أتى بي إلى فناء فأدخلني منزلا رحبا خربا.
فقال لي: قف ها هنا حتى أستأذن لك. فوقف، فخرج إليّ فقال لي: لج. فدخلت، 57/ ب فإذا بيت مفرد في الخربة، له باب/ من جريد النخل، و إذا بكهل قاعد مستقبل القبلة، تخاله من الوله مكروبا، و من الخشية محزونا، قد ظهرت في وجهه أحزانه، و ذهبت من البكاء عيناه، و مرضت أجفانه، فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، ثم تحرك، فإذا هو أعمى أعرج مسقام. فقال لي: يا أبا عامر، غسل اللَّه من درن الذنوب قلبك، لم يزل قلبي إليك تواقا، و إلى سماع الموعظة منك مشتاقا، و بي جرح بعد [1]، قد أعيا الواعظين دواه، و أعجز المتطببين شفاؤه، و قد بلغني نفع مراهمك للجراح و الآلام، فلا تألو- رحمك اللَّه- في إيقاع الترياق، و إن كان مرّ المذاق، فإنّي ممن يصبر على ألم الدواء رجاء الشفاء. قال أبو عامر: فنظرت إلى منظر بهرني، و سمعت كلاما قطّعني، فأفكرت طويلا، ثم تأتى من كلامي ما تأتى، و سهل من صعوبته ما منه يرق لي. فقلت:
يا شيخ، ارم ببصر قلبك في ملكوت السماء، و أجل سمع معرفتك في سكان الأرجاء، و تنقل بحقيقة إيمانك إلى جنة المأوى فترى ما أعدّ اللَّه فيها للأولياء، ثم تشرف على نار لظى فترى ما أعد فيها للأشقياء، فشتان ما بين الدارين، أ ليس الفريقان في الموت سواء؟ قال أبو عامر: فأنّ أنّة، و صاح صيحة، و زفر و التوى، و قال: يا أبا عامر، وقع و اللَّه دواؤك على دائي، و أرجو أن يكون عندك شفائي، زدني رحمك اللَّه. فقلت له: يا شيخ، إن اللَّه عالم بسريرتك، مطلع على خفيتك، شاهدك في خلوتك بعينه، [أين] [2] كنت عند استتارك من خلقه و مبارزته. فصاح صيحة كصيحته الأولى. ثم قال:
من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من لخطيئتي؟ أنت يا مولاي، و إليك منقلبي. ثم خرّ ميتا رحمه اللَّه. قال أبو عامر: فأسقط في يدي و قلت: ما جنيت على نفسي.
فخرجت إلي جارية عليها مدرعة صوف، و خمار من صوف، قد ذهب/ السجود بجبينها 58/ أ و أنفها، و اصفرّ لطول القيام لونها، و تورمت قدماها، فقالت: أحسنت و اللَّه يا حادي قلوب العارفين، و مثير أشجان غليل المحزونين، لا نسي لك هذا المقام رب العالمين، يا أبا عامر، هذا الشيخ والدي، مبتلى بالسقم منذ عشر سنين، صلى حتى أقعد، و بكى