معاملة السلاطين لرعاياهم و الملّاك لمماليكهم، يستذلّونهم بالوقوف على باب
بعد باب و اللبث في حجاب بعد حجاب. و إنّ اللّه تعالى قد شرّف البيت الحرام و
أضافه إلى نفسه و اصطفاه لقدسه و جعله قياماً للعباد و مقصداً يؤمّ من جميع
البلاد، و جعل ما حوله حرماً و جعل الحرم أمناً، و جعل فيه ميداناً و مجالًا و جعل
له في الحلّ شبيهاً و مثالًا، فوضعه على مثال حضرة الملوك و السلاطين، ثمّ أذّن في
الناس بالحجّ ليأتوه رجالًا و ركباناً من كلّ فجّ و أمرهم بالإحرام و تغيير الهيئة
و اللباس شُعثاً غبراً متواضعين مستكينين رافعين أصواتهم بالتلبية و إجابة الدعوة،
حتّى إذا أتوه كذلك حجبهم عن الدخول و أوقفهم في حجبه يدعونه و يتضرّعون إليه،
حتّى إذا طال تضرّعهم و استكانتهم و رجموا شياطينهم بجمارهم و خلعوا طاعة الشيطان
من رقابهم، أذن لهم بتقريب قربانهم و قضاء تفثهم، ليطهّروا من الذنوب الّتي كانت
هي الحجاب بينهم و بينه و ليزوروا البيت على طهارة منهم، ثمّ يعيدهم فيه بما يظهر
معه كمال الرقّ و كنه العبوديّة، فجعلهم تارةً يطوفون فيه و يتعلّقون بأستاره و
يلوذون بأركانه، و اخرى يسعون بين يديه مشياً و عدواً، ليتبيّن لهم عزّ الربوبيّة
و ذلّ العبوديّة و ليعرفوا أنفسهم و يضع الكبر من رءوسهم و يجعل نير الخضوع في
أعناقهم و يستشعروا شعار المذلّة و ينزعوا ملابس الفخر و العزّة. و هذا من أعظم
فوائد الحجّ، مضافاً إلى ما فيه من التذكّر بالإحرام و الوقوف في المشاعر العظام
لأحوال المحشر و أهوال يوم القيامة، إذ الحجّ هو الحشر الأصغر و إحرام الناس و
تلبيتهم و حشرهم إلى المواقف و وقوفهم بها والهين متضرّعين راجعين إلى الفلاح أو
الخيبة و الشقاء، أشبه شيء بخروج الناس من أجداثهم و توشّحهم بأكفانهم و
استغاثتهم من ذنوبهم و حشرهم إلى صعيد واحد إلى نعيم أو عذاب أليم، بل حركات
الحاجّ في طوافهم و سعيهم و رجوعهم و عودهم يشبه أطوار الخائف الوجل المضطرب
المدهوش الطالب ملجأً و مفزعاً، نحو أهل المحشر في أحوالهم و أطوارهم، فبحلول هذه
المشاعر و الجبال و الشعب و الطلال و لدى وقوفه بمواقفة العظام يهوّن ما بأمامه
من أهوال يوم القيام من عظائم يوم الحشر و شدائد النشر؛ عصمنا اللّه و جميع
المؤمنين و رزقنا فوزه يوم الدين، آمين ربّ العالمين