مصالحهم بسبب يقظة الناس و انتباههم، و يرون الدين مانعا من عبثهم و مجونهم و
شهواتهم، قالوا لنوح بكل صراحة و قحة: نحن نراك في ضلال واضح قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ.
و «الملأ» تطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة و فكرة واحدة، و يملأ
اجتماعها و جلالها الظاهري عيون الناظرين، لأن مادة «الملأ» أصلا من «الملء»، و
قد استعملها القرآن على الأغلب في الجماعات الأنانية المستبدة ذات المظهر الأنيق و
الباطن الفاسد الملوث بالأوضاد و الشرور، و الذين يملأون ساحات المجتمع المختلفة
بوجودهم.
و لقد جابه نوح عليه السلام تعنتهم و خشونتهم بلحن هادئ و لهجة متينة تطفح
بالمحبّة و الرحمة، فقال في معرض الردّ عليهم: أنا لست بضال، بل ليست في أية علامة
للضلال، و لكنّي مرسل من اللّه قالَ يا
قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
و هذه إشارة إلى أنّ الأرباب التي تعبدوها و تفترضون لكل واحد منها مجالا
للسيادة و الحاكمية، مثل إله البحر، إله السماء، إله السلام و الحرب، و ما شاكل
ذلك، كله لا أساس لها من الصحة، و رب العالمين ما هو إلّا اللّه الواحد الذي خلقها
جميعا و أوجدها من العدم.
ثمّ إنّ هدفي إنّما هو إبلاغ ما حمّلت من رسالة أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي.
و لن آلو جهدا في تقديم النصح لكم، و قصد نفعكم، و إيصال الخير إليكم وَ أَنْصَحُ لَكُمْ.
«أنصح» من مادة «نصح» يعني الخلوص و
الغلو عن الغش و عن الشيء الدخيل، لهذا يقال للعسل الخالص: ناصح العسل، ثمّ أطلقت
هذه اللفظة على الكلام الصادر عن سلامة نية، و بقصد الخير، و من دون خداع و مكر.
ثمّ أضاف تعالى وَ أَعْلَمُ مِنَ
اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.