العقوبات الثقيلة من دون نصره و تأييده و عونه، لهذا قالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا
مُسْلِمِينَ.
و الملفت للنظر أنّهم بعبارة أَفْرِغْ
عَلَيْنا صَبْراً أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة
القصوى، فأعطنا يا ربّ أنت- أيضا- آخر درجات الصبر و الاستقامة، لأنّ «أفرغ» من
مادة «الإفراغ» بمعنى صبّ السائل من وعاء حتى يفرغ.
الاستقامة الواعية:
يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أوّل اطلاعة على قصّة السحرة في زمان موسى
عليه السلام الذين صاروا من المؤمنين الصادقين، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الانقلاب
و التحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدّة القصيرة، بحيث يقطع الشخص
كل علاقاته مع الصف المخالف، و يصير في صف الموافق، ثمّ يدافع عن عقيدته الجديدة
بإصرار و عناد عجيبين إلى درجة أنّه يتجاهل مكانته و مصالحه و حياته جميعا، و
يستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير، و بوجه مستبشر؟
و لكن هذا الاستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة، و هي أنّ هؤلاء- نظرا
إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر- وقفوا جيدا على عظمة معجزة النّبي موسى عليه
السلام و حقانيته، و سلكوا هذا السبيل عن وعي كامل ... و هذا الوعي صار منشأ لعشق
ملتهب سر بل كل وجودهم و كيانهم، و هو عشق لا يعرف حدّا و سدّا، و فوق جميع
النوازع و الرغبات البشرية.
إنّهم كانوا يعلمون جيدا أي طريق يسلكونه؟ و لماذا يجاهدون؟ و من يكافحون؟ و
أي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم؟
أجل، إذا كان الإيمان مقرونا بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق