كانت الآيات السابقة قد بيّنت علائم المؤمنين الصادقين، و حيث أنّا ذكرنا في
شأن النّزول أنّ جماعة جاؤوا النّبي صلى اللَّه عليه و آله و سلّم و قالوا إنّ
ادّعاءهم كان حقيقة و إنّ الإيمان مستقر في قلوبهم، فإنّ هذه الآيات تنذرهم و تبيّن
لهم أنّه لا حاجة إلى الإصرار و القسم، كما أنّ هذا البيان و الإنذار هو لجميع
الذين على شاكلة تلك الجماعة، فمسألة (الكفر و الإيمان) إنّما يطّلع عليها اللَّه
الخبير بكل شيء! و لحن الآيات فيه عتاب و ملامة، إذ تقول الآية الأولى من الآيات
محل البحث: قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ
وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ.
و لمزيد التأكيد تقول الآية أيضا: وَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فذاته
المقدّسة هي علمه بعينه و علمه هو ذاته بعينها [1] و لذلك فإنّ علمه أزلي أبدي! ذاته المقدّسة في
كلّ مكان حاضرة، و هو أقرب إليكم من حبل الوريد، و يحول بين المرء و قلبه، فمع هذه
الحال لا حاجة لادّعائكم، و هو يعرف الصادقين من الكاذبين و مطّلع على أعماق
أنفسهم حتى درجات إيمانهم المتفاوتة ضعفا و قوّة، و قد تنطلي عليهم أنفسهم، إلّا
أنّه يعرفها بجلاء، فعلام تصرون أن تعلّموا اللَّه بدينكم؟! ثمّ يعود القرآن
لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنّون على النّبي بأنّهم أسلموا و أنّهم
أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الأخرى.
فيقول القرآن جوابا على كلماتهم هذه:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ
اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
[1]- يشيع على ألسنة بعضهم التعبير ب
«صفاته عين ذاته و ذاته عين صفاته» و ما أشبه ذلك و هذا التعبير ركيك و الصحيح ما
ورد في المتن (المصحّح).