«يخرصون» من الخرص، و هو في الأصل بمعنى
التخمين، و أطلقت هذه الكلمة أوّلا على تخمين مقدار الفاكهة، ثمّ أطلقت على الحدس
و التخمين، و لما كان الحدس و التخمين يخطئ أحيانا و لا يطابق الواقع، فقد استعملت
هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضا، و «يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.
و على أيّة
حال، فيظهر من آيات قرآنية عديدة بأنّ عبدة الأوثان كانوا يستدلون- مرارا- بمسألة
المشيئة الإلهيّة من أجل توجيه خرافاتهم، و من جملة ذلك أنّهم كانوا قد حرّموا على
أنفسهم أشياء و أحلّوا أخرى، و نسبوا ذلك إلى اللَّه سبحانه، كما جاء ذلك في الآية
(148) من سورة الأنعام: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ.
و تكرر هذا
المعنى في الآية (35) من سورة النحل أيضا: وَ قالَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.
و قد كذّبهم
القرآن الكريم في ذيل آية سورة الأنعام، حيث يقول: كَذلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا
و يصرح في ذيل آية سورة النحل: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلاغُ؟! و في ذيل الآية مورد البحث ينسبهم إلى التخمين و الكذب كما رأينا،
و كلها ترجع في الحقيقة إلى أساس و مصدر واحد.
و تشير الآية
التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به، فتقول:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ[1]؟ أي يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الادّعاء، أو
بدليل النقل، في حين لم يكن لهؤلاء دليل لا من العقل و لا من النقل، فإنّ كل
الأدلّة العقلية تدعوا إلى التوحيد، و كذلك دعا كل
[1]- «أم» هنا متصلة، و هي معطوفة على (اشهدوا
خلقهم)، و الضمير في (من قبله) يعود إلى القرآن. و ما احتمله البعض من أن (أم) هنا
منقطعة، أو أن الضمير يرجع إلى الرّسول، لا يتناسب كثيرا مع القرائن التي في
الآية.