فتارة يفرض أنّ ذلك يتلف أصل المال بأن ينضب ماء البئر، و أخرى يفرض أنّه يتلف وصفا من الأوصاف الدخيلة في ماليّة الماء كالعذوبة، و ثالثة يفرض أنّه لا يتلف وصفا حقيقيّا، و لكن يوجب نوعا من تنفّر الطبع قائم على أساس تصوّر كون البئر قريبا من البالوعة و نحو ذلك من دون أيّ تغيير حقيقي في أوصاف الماء، ففي الأوّل و الثاني يضمن، لأنّه أتلف مال الغير ذاتا أو وصفا، و أمّا في الثالث: فلا يضمن، بل ليس عمله حراما أيضا، لأنّه لم يتلف مال الغير، و إنّما أتلف ماليّته لكون التنفّر الطبعي يوجب قلّة الماليّة و الرغبة العقلائيّة فيه، و ذلك ليس من المحرّمات و لا من موجبات الضمان، و لهذا لا يستشكل أحد في أنّه لو قلّل ماليّة مال شخص آخر بإصدار بضاعة مماثلة لبضاعته إلى السوق لم يكن ذلك حراما، و لا موجبا للضمان. أقول: إنّ مسألة ضمان الماليّة لها عرض عريض في باب الضمانات، و هذا النقض يتمسّك به دائما لإثبات عدم ضمان الماليّة، لكونه مصداقا واضحا لعدم الضمان. و الفرع الآخر الّذي يكون شبيها بما نحن فيه: هو أنّه لو غصب شخص كميّة من العباءات الصيفيّة في الصيف، و أرجعها في الشتاء فقد قال الفقهاء بأنّه لا يضمن، لأنّه أرجع إليه نفس ماله، لأنّ العباء لم ينقص ذاتا و لا وصفا، غاية الأمر أنّ قيمته الآن أنزل منها وقتئذ، و الماليّة غير مضمونة، و إلاّ لانتقض بتاجر الحنطة مثلا الّذي يستورد حنطة كثيرة فينزّل قيمة الحنطة الموجودة عند الآخرين. و تفصيل الكلام في هذا المطلب موكول إلى بحث الضمان أي: بحث المقبوض بالعقد الفاسد من المكاسب و ليس هنا موضعه، إلاّ أنّني أذكر هنا كلمة واحدة بنحو الاختصار كأساس لبحث الضمان و هي: أنّه لا بدّ من التمييز بين نقصان الماليّة الناشئ من نقصان القيمة الاستعماليّة للمال، و نقصان الماليّة الناشئ من نقصان القيمة التبادليّة للمال، فإنّ للمال قيمتين: قيمة استعماليّة: و هي القيمة التي تتحصّل من منافع هذا المال و إشباعه لحوائج الإنسان الطبيعيّة بغضّ النّظر عن عرضه بالسوق و وجود مشتر له، و قيمة تبادليّة و التي يعبّر عنها في العرف الاعتيادي بالسعر و الثمن السوقي أي: قوة تبادل هذا المال مع مال آخر، و القيمة التبادليّة تؤثّر فيها القيمة الاستعماليّة، فإنّ الشيء الّذي ليست له قيمة استعماليّة و لا ينفع أصلا ليست له قيمة تبادليّة في السوق، فالقيمة الاستعماليّة دخيلة في تكوين القيمة التبادليّة لكن يدخل في تكوين القيمة التبادليّة