اسم الکتاب : سراج الملوك المؤلف : الطرطوشي، أبوبكر الجزء : 1 صفحة : 203
و الوجه الثاني:
ما يحصل لذوي الحنكة[1]، و صحة
الرّويّة لطول ممارسة الأمور و كثرة التجارب، و مرور الغير على أسماعهم، و تقلب
الأيام، و تصرف الحوادث، و تناسخ الدول، قد مرت على عيونهم وجوه الغير، و تصدت
لأسماعهم أنواع الأخبار و آثار العبر.
قال بعض الحكماء: كفى بالتجارب تأدّبا، و بتقلب الأيام عظة.
و قالوا: التجربة مرآة العقل، و الغرّة[2]
ثمرة الجهل، و لذلك حمدت آراء الشيوخ حتى قالوا: المشايخ أشجار الوقار، و ينابيع
الأخبار، لا يطيش لهم سهم، و لا يسقط لهم وهم، فعليكم بآراء الشيوخ، فإنهم إن
عدموا ذكاء الطبع، فقد أفادتهم الأيام حنكة و تجربة.
و قد قال الشاعر:
أ
لم تر أنّ العقل زين لأهله
و
لكن تمام العقل طول التّجارب
و قال آخر:
إذا
طال عمر المرء في غير آفة
أفادت
له الأيّام في كرّها عقلا
غير أن للعقل آفات، كما قال بعض الحكماء: كيف يرجو العاقل النجاة، و
الهوى و الشهوة قد اكتنفاه، و الهوى أبعد من أن تنفذ فيه حيلة الحازم المحتال، و
هو أغمض مسلكا في الجنان، من الروح في الجثمان، و أملك بالنفس من النفس، و المالك
للشيء. و لهذا قيل: كم من عقل أسير عند هوى أمير، فمن أحب أن يكون حرا فلا يهوى،
و إلا صار عبدا، كما قال عليّ بن الجهم[3]:
أنفس
حرّة و نحن عبيد
إنّ
رقّ الهوى لرق شديد
و اختلفت الناس في العقل المكتسب، إذا تناهي و زاد في الإنسان، هل
يكون فضيلة، أم لا؟ فقال معظم العقلاء: إنه فضيلة إذا كان مجموع آحاد،
[1] - ذو الحنكة: من جعلته التجارب و تقلبات الدهر
حكيما.
[3] - علي بن الجهم: شاعر بغدادي، كان معاصرا لأبي
تمام، غضب عليه الخليفة المتوكل لهجائه و سعاياته، فنفاه إلى خراسان و هناك حبسه
طاهر بن عبد اللّه، و صلبه يوما كاملا، ثم انتقل إلى حلب و خرج يريد الغزو، فقتله
فرسان من بني كلب، حوالي سنة 249 ه له ديوان و له شعر في حبسه و صلبه، و يتميز
شعره بالرقة.( الأعلام 4/ 269).
اسم الکتاب : سراج الملوك المؤلف : الطرطوشي، أبوبكر الجزء : 1 صفحة : 203