اسم الکتاب : ايقاظ الهمم فى شرح الحكم المؤلف : ابن عجيبة الجزء : 1 صفحة : 445
تلك الدار صار الحكم للأرواح، و في هذا لدار
الحكم للأشباح، إلا من ترقى هنا إلى عالم الأرواح فهو من أهل الجنة فنعيمه نعيم
الأرواح، و هو روح الوصال و شهود الكمال، فنعيمه بشهود اقترابه و رضوانه، فلو زال
عنهم شهود القرب أو انقطع عنهم مدد الرضوان لضاق عليهم فسيح الجنان. و أما نعيم
الأشباح و عذابها: أعني من كان محجوبا بها فإنما هو لموافقة ما يلائم طبعه أو
مخالفته، فإذا جاء ما يلائمه من صحة و عافية و جمال حسي فهو في حقه نعيم، و إذا
جاء ما يخالف طبعه من وجع أو فقد أو منع أو فتنة فهو عذاب في حقه إذ لا حظ له في
لذة القرب و مرارة البعد، فإنما حظه من النعيم نعيم البهائم، نعم لو قدرنا أن
العادة تخرق له و يتجلى الحق تعالى له في حال عذابه الحسي بصفة جماله لنسي ذلك
العذاب. و الحاصل: أن كلام الشيخ إنما هو في حق أهل القرب أو الشهود بحيث يجد لذة
القرب و حلاوة الشهود، و يحس بمرارة البعد و ضيق الحجاب في هذه الدار و في تلك
الدار، هذا ما ظهر لي، و هذا الذي ذكره الشيخ مذوق عند أرباب العشق، فكم من عاشق
ضرب بمحضر محبوبه فلم يحس بألم الضرب، فلما غاب عنه تضرع و استغاث، فقيل له في
ذلك؟ فقال: لما حضر من كنت أضرب من أجله غبت عن ألم الضرب، فلما غاب عني وجدت
ألمه. قلت: و لهذا المعنى استلذ العارفون الفاقات، و أنواع التعرفات، و ضروب
البليات لما ذاقوا في ذلك من إقبال محبوبهم، و رضا مشهودهم. كان بعض الصحابة رضي
اللّه عنهم يقول: ألا حبذا المكروهات الثلاث:
الفقر و المرض و الموت: أي ما أحبهم لي و أعزهم، و كانت زوجة بلال
تصيح عند موته: و اكرباه، فيقول هو: و اطرباه، غدا ألقى الأحبة: محمدا و حزبه. و
لما ضرب عامر بن فهيرة بالرمح و نفذ من ظهره إلى صدره قال: فزت و رب الكعبة. و كان
بعض الأولياء مجذوما، و هو يدعو للمرضى فيبرءون من حينهم، فقيل له: لو دعوت اللّه
أن يخفف عنك؛ فقال: رأيت رب العزة في النوم و هو يقول لي: أتريد أن أبتليك ببلية
أرفع لك بها أعلى الدرجات؟ قلت: نعم، فأصبح مجذوما. فانظر هؤلاء السادات لما عرجوا
من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، لم يبق لهم نعيم و لا عذاب إلا نعيم الأرواح أو
عذابها، و أما عذاب الأشباح فقد غابوا عنه، فكان نعيم هؤلاء و قوت أرواحهم هو ذكر
ربهم و شهود نوره أو اقترابه، حتى صار
اسم الکتاب : ايقاظ الهمم فى شرح الحكم المؤلف : ابن عجيبة الجزء : 1 صفحة : 445