فقد كنت أضغط على نفسي للبقاء في مسجد
السهلة، أو مسجد الكوفة طول الليل ساهراً جائعاً، والمواظبة على الذكر والصلاة
والعبادة.
وهناك في جوف الليل المظلم الذي تنعكس فيه روحانية نفسيّة- تدرك ولا
توصف- تتقوّى ملكة الزهد في الإنسان، فيرى الحياة لهواً ولعباً[1]،
رؤية حسية لا رؤية فكرية.
فإنه وإن كان من الجرأة أن أقول ذقت حلاوة العبادة هناك، لكن قد لا
يكون من الجرأة أن أقول: أدركت هناك بعض حلاوة المعنويات، إذ في باطن الإنسان حسٌ
يحسّ بشيء غير المادّة، وله لذّة لا تقايس بلذّة المادّة، وقد شعرت هناك مرّات ومرّات
أني محروم من هذا الحس، وأنّ تحصيله من الصعوبة بمكان، وقد أدركت معنى قول (سعدي)[2] في أبياته الطريفة:
اكر
لذّت ترك لذّت بدانى
دكَر
لذّت دهر لذّت نخواني
هزاران
در از خلق برخود ببندي
اكر
باز شد يك در آسماني
ومضمونها:
(إذا كنت تشعر وتعلم بطعم ترك اللذّة .. عندها لا تعد لذّة الدهر
لذّة .. توصد على نفسك آلافاً من أبواب الناس، إذا ما فتح لك رب العالمين بابا من
السماء).
وإني إلى الآن أغبط نفسي على تلك الحالة التي كانت حالة مثالية. أما
الوصول إلى ما وصل إليه الزهّاد فكان بيني وبينه- بَعدُ- مراحل.
[1] - إشارة إلى قوله تعالى: وما هذه الحياة الدنيا إلا
لهو ولعب سورة العنكبوت: 64.
[2] - هو الشيخ مصلح الدين سعدي بن عبد الله الشيرازي(-
690 ه-)/( 1189- 1291 م) الشاعر والناثر الفارسي، تعلم في نظامية بغداد، وكان كثير
الأسفار، له:( كلستان) و( بوستان) و( الديوان) وقد نقلت إلى عدة لغات ..