وقد أبان عظم سلطانه ما لهذه الليلة من المشاعر الملكوتية الروحية من
الصلة فيها بين أهل السماء وأهل الأرض بقوله عز اسمه [تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ].
وفي الحديث الشريف (ينزل فيها جبرائيل في كبكبة من الملائكة متضامنة
يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل).
وقدّر مبدع الكون وخالقه فيها الحوادث الكونية، والأرزاق الإلهية
والألطاف الربانية بقوله تعالى وهو أصدق القائلين [فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ].
فكم من فتى يمسي ويصبح آمنا وكم من عروس زينوها لزوجها
وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري وقد قدرت أرواحهم ليلة القدر وقد ورد في الحديث المشتمل على أسرار المعارف وغوامض العلوم عن كنز
اليواقيت عن الرسول الأعظم (ص): (أن كليم الله موسى قد ناجى الله عز وجل. فقال
إلهي أريد قربك، قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر، قال: إلهي أريد رحمتك، قال:
رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر، قال: إلهي أريد الجواز على الصراط، قال: ذلك
لمن تصدق في ليلة القدر، قال: أريد من أثمار الجنة، قال: ذلك لمن سبح تسبيحه في
ليلة القدر، قال: إلهي أريد النجاة من النار، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر،
قال: إلهي أريد رضاك، قال: رضائي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر). ألا وأن في هذه
الليلة سنة مأثورة لطلب الحاجة، وهي وضعك القرآن الكريم على الرأس ونشره بين يديك
ثم تقول (اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه وفيه أسمك الأكبر وأسماءك الحسنى
وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار) ثم تسأل حاجتك. وقد عرف هذا النداء
بالاستجابة، وفي هذه السنة المستحبة نفحة قدسية تنعش الخاطر وتشرق بنورها النفس.
وإن على المسلمين في هذه الليلة المباركة أن
يجددوا ذكرى نزول القرآن الكريم، الدستور السماوي والمعجزة الخالدة على مر الدهور
والعصور، كما يجددوا ذكرى مولد الرسول (ص) بل ربما كان ذلك أهم وأعظم من ذكرى
ميلاده ومعراجه، فإنه المعجزة الخالدة والآية الدامغة القاهرة يتخلد بإحياء ذكراه
الإسلام، وتقوى بتلاوته العقيدة والأيمان تجلت فيه لوامع حظيرة القدس وطوالع محاضر
الإنس في وضع المسلم له على رأسه ونشره بين يديه، إشارة دقيقة ودلالة واضحة لطيفة،
يدركها ذوي اللب السليم والطبع المستقيم إلى أن هذا القانون السماوي والوحي
الرباني يلزم تعظيمه ووضعه في أحسن مغرس وأعلى معرّس. وحيث انتهى بنا الحديث إلى
عظمة هذه الليلة عند الله تعالى، وجلالة قدرها لديه ووعده، وسعة رحمته باستجابة
الدعاء في آنائها حتى ينجلي عمود الفجر ويشرق فلق الصبح. فهنيئا لمن كادت أن تنقضي
دولة الصيام عليه في هذه الأيام، وبشر سقم هلاله في ناديه بالعيد السعيد، وهنئه
أنين الشهر بالعيش الرغيد، فهنيئا وهنيئا أن يتجه بقواه نحو العمل المبرور بعد أن
غلبت قواه الروحية على شهواتها المادية، وأن يضع الحسنات ويعمل الخيرات بعد أن صفت
نفسه بالصوم وصقل عقله بطاعة رب العالمين، وأن يدعو بالدعاء المعروف بالإجابة في
هذه الليلة، المأثور عن الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين (ع).
اسم الکتاب : الكلم الطيب المؤلف : كاشف الغطاء، علي الجزء : 1 صفحة : 8