responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الأمثل المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    الجزء : 1  صفحة : 6

الآيات



مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَـت لاَّ يُبْصِرُونَ__ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ__ أَوْ كَصَيّب مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَـتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَـبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَـفِرِينَ__ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـرَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـرِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىء قَدِيرٌ__

التّفسير


مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين:
بعد أن بين القرآن صفات المنافقين وخصائصهم، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم:
1 ـ (مَثَلُهُمْ) المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَدَ نَاراً) في ليلة مظلمة، كي يهتدي بها إلى طريق ويبلغ مقصده. (فَلَمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَات لاَ يُبْصِرُونَ).
لقد ظنّ هؤلاء أنهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة.
ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّيّة، أو بسبب نفاد الوقود، يوظلّوا حائرين لا يهتدون سبي.
ثم تضيف الآية الكريمة أن هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: (صُمٌ بُكمٌ عُميٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ).
والمثال المذكور يصوّر بدقّة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية. فهذه الحياة مملوءة بطرق الإنحراف والضلال، وليس فيها سوى طريق مستقيم واحد للهداية، وهذا الطريق مليء بالمزالق والأعاصير. ولا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام الأعاصير، إلاّ بنور العقل والإيمان، وبمصباح الوحي الوهّاج.
وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟!
هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين. وأن ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة. وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة، كضوء يشقّ لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم. لكن الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم، إذ قال لرسوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا: نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، والله يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(139).
والقرآن الكريم يفضح المنافقين لدى الكافرين أيضاً، ويبيّن كذبهم ونكولهم إذ يقول: (اَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ، وَلئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاَْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ)(140).
جدير بالذكر أن القرآن استعمل عبارة (إِسْتَوْقَدَ نَاراً) أي إنهم استفادوا للإِنارة من «النار» ذات الدخان والرّماد والحريق، بينما يستنير المؤمنون بنور الإيمان الخالص وبضوئه الساطع.
باطن المنافقين ينطوي على النار، وإن تظاهروا بنور الإيمان، وإذا كان ثمة نور فهو ضعيف في قوته وقصير في مدته.
هذا النور الضعيف المؤقّت، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث أُسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة، بل إلى «ظُلمات» في التعبير القرآني.
وهؤلاء سيفقدون في النهاية قدرة الرؤية الصحيحة، والإستماع الصحيح، والنطق الصحيح، وهذه نتيجة طبيعية ـ كما ذكرنا سابقاً ـ للإستمرار على الإنحراف والإصرار على الغيّ، حيث يؤدي إلى إضعاف آليات الادراك لدى الانسان فيرى الحقائق مقلوبة، فالخير في نظره شرّ، والملك شيطان، وهكذا.
على أي حال هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق، وهي إن عمر يالنفاق والتذبذب لا يدوم طوي، قد يستطيع المنافقون لمدة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفار سراً. لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفى، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين، ويظلون منفورين مطرودين حائرين، مثل إنسان يتخبّط في ظلام دامس.
لابدّ من الإشارة إلى ما ورد في تفسير الآية الكريمة: (هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً)(141).
عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) قال: «أَضَاءَتِ الأَرْضُ بِنُورِ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، فَضَرَبَ اللهُ مَثَلَ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) الشَّمْسَ وَمَثَلَ الْوَصِيِّ الْقَمَرَ»(142).
وهذا يعني أن نور الإيمان والوحي يغمر العالم كلّه. ولا يمتلك منه المنافقون شيئاً، حتّى لو كان في النفاق نور، فإنّ مدياته قصيرة ودائرته صغيرة لايضيء إلاّ ما حوله.
في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان. وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافر طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام. هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي: (أوْ كَصَيِّب مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْت، والله مُحِيطٌ بِالْكَافِرينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضآءَ لهم مَشوا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا).
هؤلاء يحسّون كلّ لحظة بخطر، لأنهم يطوون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق، ونحن نعلم أن خطر الصاعقة يتجه إلى كل ارتفاع على الأرض. لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء خالية من أي ارتفاع سوى مرتفع أجسامهم، ومن هنا فخطر الصاعقة يهددهم كل آن بتحويلهم إلى رماد!
(أهمية هذا المثال تتضح لدى أهل الحجاز ـ حيث الصحارى المنبسطة ـ أكثر من وضوحها لدى أهالي المناطق الجبلية).
ينعم، هؤلاء حيارى مضطربون، لا يجدون طريقاً يسلكونه، ولا دلي يهتدون به، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم (وَلَوْشَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ).
المنافقون مثل هؤلاء المسافرين، يعيشون بين المؤمنين المتزايدين المتدفقين كالسيل الهادر وكالمطر الغزير، لكنهم لم يتخذوا لهم ملجأ آمناً يقيهم من شر صاعقة العقاب الإلهي.
نهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام يشكل صواعق وحمماً تنزل على رؤوس المنافقين. وتسنح أحياناً لهؤلاء المنافقين يفرصة للهداية واليقظة، لكن هذه الفرصة لا تلبث طوي، إذ تمرّ كما يمرّ نور البرق، ويعود الظلام يطبق عليهم، ويعودون إلى ضلالهم وحيرتهم.
إنتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم. وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم صعقتهم، وفي كل لحظة يحتملون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِمْ، قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)(143).
والمنافقون خائفون أيضاً أن يأذن الله بمحاربتهم، وأن يحثّ القوة الإسلامية المتصاعدة على مجابهتهم، لأنهم كانوا يواجهون مثل هذه التهديدات القرآنية، كقوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فَي يالْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ إلاَّ قَلِي. مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِلِّوا يتَقْتِي)(144).
مثل هذه الآيات كانت تنزل كالرعد والبرق على المنافقين، وتتركهم في خوف وذعر وحيرة في المدينة، وتضعهم أمام خطر الإبادة أو الإخراج من المدينة كلّ حين.
هذه الآيات ـ وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي ـ تمتد لتشمل كلّ المنافقين في التاريخ، لإن خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح. ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفه واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.
أما بشأن الفرق بين المثالين فثمة تفسيران: الأوّل: إنّ قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ...) يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أما قوله: (كَصَيّب مِنَ السَّمَاءِ ...) فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا بالله قط. الثّاني: أن المثال الأول يتحدث عن حالة الأفراد، ولذلك يقول: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ) والثاني يجسّد وضع الأجواء المخيفة المرعبة الخطرة التي تحدق بهؤلاء المنافقين، ومن هنا جاء التشبيه بالجوّ المظلم الممطر المليء بالخوف والذعر والإضطراب.

* * *


الآيات



يَـأَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ__ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ فِرَ شاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَر تِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ__

التّفسير


فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين، فالمتقون هم المشمولون بالهداية الإِلهية، والمنافقون هم الذين طبع الله على قلوبهم، والمنافقون هم المرضى الذين زادهم الله مرضاً، وفقدوا قدرة التشخيص نتيجة أعمالهم.
أمّا الآيات المذكورة فدعت النّاس إلى انتخاب طريق المجموعة الاُولى، وإلى عبادة الله الواحد الأحد.
وفي الآية الكريمة: (يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عدة ملاحظات نشير إليها فيما يلي:
1 ـ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً، وهو نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله، وللثورة على كل ألوان الشرك والإنحراف عن طريق التوحيد.
2 ـ يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله، على نعمة خلق البشر. وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة. لأن الموجود البشري سيّد الموجودات، ومظهر علم الله وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة.
أُولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له، غافلون غالباً عن العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم، وعن اليد المدبّرة المقدّرة التي أوجدت هذا الخلق، وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في جسم الإنسان وروحه.
فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله، ومحرك للشكر على هذه النعم.
3 ـ نتيجة هذه العبادة هي التقوى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فعباداتنا لا تزيد الله عظمة يوجلا، كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئاً. هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى، والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرّك الذاتي للفرد، وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته.
4 ـ عبارة: (أَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) لعلها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم. والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن الله الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو إنحراف عن الخط الصحيح.

* * *


نِعَم الأرض والسماء:


الآية التالية استعرضت قسماً آخر من النعم الإلهية التي تستحق الشكر، يذكرت أوّ خلق الأرض: (اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً).
فهذه الكرة السائرة بسرعة مذهلة في الفضاء، قد سُخرت للإنسان كي يمتطيها ويستقر عليها دون أن تؤثر عليه حركتها.
وتتجلى عظمة نعمة الأرض أكثر حين نلاحظ خاصّية الجاذبية التي تؤمّن لنا إمكانية الإستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع، وسائر مستلزمات الحياة على هذه الأرض. فلو انعدمت هذه الخاصية لحظة واحدة لتناثر كل ما على هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات في الفضاء!
تعبير «فِراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الإستقرار والإستراحة، كما يصوّر إضافة إلى ذلك مفهوم الإعتدال والتناسب في الحرارة. هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) مفسراً هذه الآية إذ يقول: «جَعَلَهَا مُلاَئِمَةً لِطِبَاعِكُمْ، مُوافِقَةً لاَِجْسادِكُمْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَديدَةَ الْحماء وَالْحَرارَةِ فَتُحِرقَكُمْ، وَلاَ شَدِيدَةَ البُرودةِ فَتُجْمِدَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ طيب الرّيح فَتَصدَعَ هَامَاتِكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ النَّتْنِ فَتُعْطِبَكُمْ، وَلاَشَديدَةَ اللِّيْن كَالْمَاءِ فَتُغْرِقَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ الصَّلاَّبَةِ فَتَمْتنِعَ عَلَيْكُمْ في دُورِكُمْ وَأَبْنِيَتِكُمْ وَقُبُورِ مَوْتَاكُمْ ... فَلِذَلِكَ جَعَلَ الأَرْضَ فِرَاشاً لَكُمْ»!(145).
ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً).
كلمة «سَماء» وردت في القرآن بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو، واقتران كلمة «سَماء» مع «بِنَاء» يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه الأرض. بل إنّ القرآن صرّح بكلمة «سَقْف» في بيان حال السماء إذ قال: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفَاً مَحْفُوظاً)(146).
لعل هذا التعبير القرآني يثير استغراب أُولئك الذين يفهمون موقع الأرض في الفضاء، فيتساءلون عن هذا السقف ... عن مكانه وكيفيته. ولعل هذا التعبير يعيد ـ بادئ الرأي ـ إلى الأذهان فرضية بطليموس التي تصور الكون على أنه طبقات من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشورالبصل!! من هنا لابدّ من توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية.
ذكرنا أن سماء كل شيء أعلاه، وأحد معاني السماء «جَوّ الأرض»، وهو المقصود في الآية الكريمة. وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.
لو أمعنّا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر.
هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفّاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية، على الرغم من أنه لا يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الارض.
لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولَمَا كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب، وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدّة مئات من الكيومترات(147) تعمل على إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية، وقليل جداً من هذه الصخور تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم.
من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو «جو الأرض» حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)يتحدث فيه إلى «المفضّل» عن السماء فيقول: «فَكّرْ في لَوْنِ السَّمَاءِ وَمَا فِيهِ منْ صَوَابِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّوْنَ أَشَدُّ الألْوَانِ مُوافِقَةً لِلْبَصَرِ وَتَقْوِيَةً ...»(148).
ومن الواضح أن زرقة السماء ليست إلاّ لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض. ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جوّ الأرض نفسه.
وأُضيفت كلمة الجوّ إلى السماء في قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَات في جَوِّ السَّمَاءِ)(149).
وحول معاني السماء الاُخرى ستنحدّث بشكل أوفى في ذيل الآية 29 من هذه السّورة.
بعد ذلك تطرقت الآية الى نعمة المطر: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) ... ماءً يحيي الأرض ويخرج منها الثمرات.
عبارة (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) تؤكد مرّة اُخرى أن المقصود من «السماء» هنا هو جوّ الأرض، لأننا نعلم أن المطر ينزل من الغيوم، والغيوم بخار متناثر في جوّ الأرض.
الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) يتحدث عن نزول المطر في تفسير هذه الآية فيقول: «يُنْزِلُهُ مِنْ أَعْلَى لِيَبْلُغَ قُلَلَ جِبَالِكُمْ وَتِلالِكُمْ وَهِضَابَكُمْ وَأَوْهَادَكُمْ، ثُمَّ فَرَّقَهُ رِذَاذاً يييوَوَابِ وَهَطْ لِتَنْشِفَهُ أَرَضُوكُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطَرَ نَازِ عَلَيْكُمْ قَطْعةً وَاحِدَةً فَيُفْسِدَ أَرَضِيكُمْ وَأَشْجَارَكُمْ وَزُرعَكُمْ وَثِمَارَكُمْ»(150).
ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَراتِ رِزْقَاً لَكُمْ).
وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة رب العالمين لعباده، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون، ليكون قوتاً للإنسان والحيوان، لذلك عطف عليها قوله تعالى: (فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فهذه الأنداد المفتعلة وما تعبدون من دون اللّه، لم يخلقوكم ولا خلقوا آباءكم، ولا خلقوا ما ترونه حولكم من مظاهر كونية ونعم موفورة.
و«الأنداد» جمع «نِد» على وزن ضدّ، وهو الشبيه والشريك، وواضح أن هذا الشبه قائم في أذهان المشركين وليس أمراً واقعياً.
وبعبارة أدق: ندّ الشيء ونديده ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ مشاركة في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.

* * *

بحث


الشّرك في أشكال مختلفة:
لابدّ من التأكيد على أن الشّرك بالله لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون الله كما يفعل الوثنيون، أو القول بأن الله ثالث ثلاثة كما تقول النصارى. بل إن للشرك معنىً أوسع وصوراً متنوعة أكثر ضموراً وخفاءً. وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير الله في الحياة هو نوع من الشرك. وهذا ما يعبّر عنه ابن عباس إذ يقول:
(الأنداد) هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء، وهو أن يقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي! ... ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص البارحة! ... وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت ... هذا كله به شرك(151).
يونقرأ في حديث شريف أن رج قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما شاء الله وشئت. فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أجعلتني لله ندّاً»؟!
مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة ـ مع الأسف ـ بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد، كقولهم: اعتمادي على الله وعليك!!
في الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وَمَايُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(152) قال: «قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلاَ فُلاَنٌ لَهَلَكْتُ، وَلَوْلاَ فُلاَنٌ لأَصَبْتُ كَذَا وَكَذا، وَلَوْلاَ فُلاَنٌ لَضَاعَ عِيَالِي»(153).
وسيأتي توضيح أكثر في هذا المجال في ذيل الآية 106 من سورة يوسف.

* * *


الآيتان



وَإِنْ كُنْتُمْ فِى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة مِّنْ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ __فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـفِرينَ__

التّفسير


القرآن معجزة خالدة:
ظاهرة الكفر والنفاق، التي دارت حولها موضوعات الآيات السابقة، تنشأ أحياناً عن عدم فهم محتوى النّبوة ومعجزة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم). والآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك وترديد في رسالة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم). تقول الآية:
(وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىْ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ)(154).
وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي ييكون عجزهم دلي واضحاً على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب الإلهي للرسالة والدعوة.
ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعبارة (مِنْ دُونِ الله) إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإلى قدرة الله وحده على ذلك.
وعبارة (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ) تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، ومفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.
طبيعة التحدي تقتضي أن يكون صارخاً إلى أبعد حدّ ممكن، وأن يكون محفّزاً للعدو مهما أمكن، وبعبارة اُخرى أن يثير الحميّة فيه، كي يجنّد كل طاقاته لعملية المجابهة، حتى إذا فشل وأيقن بعجزه علم أنه أمام ظاهرة إلهية لا بشرية.
من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة ويقول: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وهذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ).
جمع من المفسرين قالوا: إن المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، واستشهدوا لذلك بالآية الكريمة: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(155).
جمع آخر قالوا: (الحجارة) إشارة إلى صخور معدنية كبريتية تفوق حرارتها حرارة الصخور الاُخرى.
وهناك من المفسرين من يعتقد أن المقصود من هذا التعبير، إلفات النظر إلى شدة حرارة جهنم، أي إن حرارة جهنّم وحريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور والأجساد كما يشتعل الوقود.
ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أن نار جهنم تستعر من داخل النّاس والحجارة. ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أن العلم الحديث أثبت أن كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة (أو بعبارة اُخرى على طاقة قابلة للتبديل إلى نار)، ولا يلزم أن نتصور نار جهنم شبيهة بالنار المشهودة في هذا العالم.
في موضع آخر يقول تعالى: (نَارُاللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)(156). خلافاً لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.

* * *


بحوث


1 ـ لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟
نعلم أن منصب النّبوة أعظم منصب منحه الله لخاصة أوليائه. فكل المناصب عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد، إلاّ منصب النّبوة، فالنّبي يحكم على الأجسام والقلوب في مجتمعه. من هنا كان مقام النّبوة لا يبلغه مقام في سموّه، ومن هنا أيضاً كان أدعياء النبوّات الكاذبة أحطّ النّاس وأشدّهم إنحرافاً.
والنّاس هنا أمام أمرين: إمّا أن يؤمنوا بدعوات النّبوة جميعاً، أو يرفضوها جميعاً، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى وهرج و مرج. ولو رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال والضياع.
فالدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين. أي أن يكونوا مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.
و«المعجزة» ـ كما هو واضح من لفظها ـ عمل خارق يأتي به النّبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون.
على النّبي صاحب المعجزة أن يتحدى النّاس بمعجزته، وأن يعلن لهم أن معجزته دليل على صدق دعواه.

* *


2 ـ القرآن معجزة نبي الإِسلام الخالدة:
القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، ولم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي بمثله، وهو معجزة سماوية كبرى.
هذا الكتاب الكريم يعتبر ـ بين معاجز النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أقوى سند حيّ على نبوة الرّسول الخاتم، لأنه معجزة «ناطقة» و«خالدة» و«عالمية» و«معنوية».
أمّا أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنها كانت بحاجة إلى وجود النّبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها، ومعاجز النّبي الخاتم ـ عدا القرآن ـ هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة. لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصراً من ساحة التحدي. وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين ومعجزة، إنه قانون، ووثيقة تثبت الهية القانون.
أما الخلود والعالمية: فإنّ القرآن حطم سدود «الزمان والمكان» وتعالى عليهما، لأن معاجز الأنبياء السابقين ـ وحتى معاجز النّبي الخاتم غير القرآن ـ مسجلة على شريط معين من الزمان، وواقعة في مساحة معينة من المكان، وأمام جمع معدود من النّاس، مثل معاجز عيسى(عليه السلام) كحديثه في المهد وإحيائه الموتى. وواضح أن الأحداث المقيّدة بزمان ومكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما ابتعدنا عن ظروفها الزمانية والمكانية. وهذا من خصائص الأمور الزمنية.
لكن القرآن لا يرتبط بالزمان والمكان، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم والإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فانه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، وبديهي أن الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.
أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، ونرى أنها كانت غالباً «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، وتحدث الطفل في المهد ... وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن، فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.

* * *


3 ـ هل تحدى القرآن؟
القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره، منها:
1 ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بمِثْلِ هَذَا الّقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً)(157).
2 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ)(158).
3 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ فَأْتُوا بِسُورَة مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(159).
4 ـ الآية الثالثة والعشرون من سورة البقرة التي يدور حولها بحثنا.
القرآن تحدى بصراحة وقوة في هذه الآيات جميع البشرية، وفي هذه الصراحة والقوّة دلالة حيّة على حقّانيته. ولم يكتف في تحدّيه بدعوة النّاس إلى أن يأتوا بمثله، بل حفّزهم وشجعهم على ذلك، وعبارات التحفيز نجدها في قوله تعالى:
(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ... فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات ... قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِثْلِهِ ... وَادْعُوا مَن اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دون اللهِ ... قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ ... لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ... فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ... فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ...).
هذا التحفيز والحثّ والإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية، بل في إطار معركة «سياسية» «إقتصادية» «إجتماعية»، ضمن إطار معركة حياة أو موت، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد. وعجز المعارضين أمام هذا التحدّي الحياتي الصارخ، يبيّن بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية.
جدير بالذّكر أن تحدي القرآن لا ينحصر بزمان أو مكان، بل إن هذا التحدّي قائم حتى يومنا هذا.

* * *


4 ـ هل جيء بمثله؟
الجواب على هذا السؤال يتضح لو ألقينا نظرة على الظروف والملابسات التي عاصرت نزول القرآن، وعلى تاريخ ما ذكر من محاولات لكتابة مايشبه القرآن.
غير خفيّ أن الرسالة في عصر النّزول وما بعده، واجهت خصوماً ألدّاء من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين. وهؤلاء توسّلوا بكل ما لديهم من قوة وحيلة للوقوف بوجه الدعوة. (حتى إن بعض المنافقين مثل (ابوعامر) الراهب ومن وافقه من المنافقين اتّصلوا بأمبراطور الرّوم للتآمر على الإسلام، وبلغ الأمر بهؤلاء المتآمرين أن شيّدوا «مسجد ضرار» في المدينة، وحدثت على أثر ذلك وقائع عجيبة أشار اليها القرآن في سورة التوبة).
من الطبيعي أن هؤلاء الأعداء الألدّاء من المنافقين وغيرهم كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويتحينون كل فرصة للإضرار بالمسلمين. ولو كان هؤلاء قد حصلوا على كتاب يجيب على تحدي القرآن، لتهافتوا عليه ونشروه وطبّلوا له وزمّروا، أو لسعوا في حفظه على الأقل.
يولذلك نرى أن التاريخ احتفظ بأسماء أولئك الذين يحتمل احتما ضعيفاً أنهم عارضوا القرآن، مثل:
«عبد الله بن المقفع»، فقد قيل أنه عارض القرآن بكتابه «الدرّة اليتيمة» بينما لا نعثر في هذا الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم على إشارة إلى هذه المعارضة، ولا نعرف لماذا وجهت التهمة إلى ابن المقفع بهذا الكتاب؟
والمتنبي، أحمد بن الحسين الكوفي الشاعر، ذكر في زمرة المعارضين وأصحاب النبوءات، بينما تؤكد دراسات حياة المتنبي وأدبه، أنه كان ينطلق في شعره غالباً من روح الخيبة في بلوغ المناصب الرفيعة، ومن الحرمان العائلي.
وأبو العلاء المعرّي، اتهم بهذا أيضاً، ونقلت عنه أشعار تنم عن رفضه لبعض مسائل الدين، لكنه لم يرفع صوته يوماً بمعارضة القرآن، بل نقلت عنه عبارات في عظمة كتاب الله العزيز سنشير إليها فيما بعد.
أما مسيلمة الكذاب من أهل اليمامة فقد عارض القرآن، وأتى بآيات!! أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، ومن ذلك.
1 ـ ما قاله معارضاً سورة «الذاريات»: «والمبذرات بذراً. والحاصدات حصداً. والذاريات قمحاً. والطاحنات طحناً. والعاجنات عجناً. والخابزات خبزاً. والثاردات ثرداً. واللاقمات لقماً. اهالة وسمناً »(160).
2 ـ من النماذج الاُخرى لآياته: «يا ضفدع نقّي فإنّك نعم ما تنقين، لا وارداً تنفرين، ولا ماء تكدرين»(161).

* * *

اسم الکتاب : تفسير الأمثل المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    الجزء : 1  صفحة : 6
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست