responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الأمثل المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    الجزء : 1  صفحة : 5
2 ـ ما هي حقيقة التقوى؟

التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة(104)، وهي بعبارة اُخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.
لهذا السبب وصف أمير المؤمنين علي(عليه السلام) التقوى بأنها الحصن الذي يقي الإنسان أخطار الإنزلاق إذ قال: «اِعْلَمُوا عِبَادَ الله اَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْن عَزِيز»(105).
وفي النصوص الدينية والأدبية تشبيهات كثيرة تجسّم حالة التقوى، فعن الامام علي(عليه السلام) قال: «أَلا وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وأُعْطُوا أزِمَّتَها، فَاَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ»(106).
وعبد الله بن المعتز شبّه التقوى بحالة رجل يسير على طريق شائكة، ويسعى إلى أن يضع قدمه على الأرض بتأنّ وحذر، كي لا تخزه الأشواك، أو تتعلق بثيابه، يقول: خَل الذُّنُوبَ صَغيرَهَا***وَكَبيرَهَا فَهُوَ التُّقى
وَاصْنَعْ كَمَاش فَوْقَ أرْ***ضِ الشَّوْك يَحْذَرُ مَا يَرى
لا تَحْقِرَنَّ صَغيرَة***اِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصى!(107)
هذا التشبيه يفيد أيضاً أن التقوى لا تعني العزلة والإنزواء عن المجتمع، بل تعني دخول المجتمع، وخوض غماره، مع الحذر من التلوّث بأدرانه إن كان المجتمع ملوثاً.
بشكل عام، فانّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان بالله واليوم الآخر. ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره، ومقياس شخصيته في الإسلام، حتى أضحت الآية الكريمة: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ اَتْقَاكُمْ)(108) شعاراً إسلامياً خالداً.
يقول الامام عليّ(عليه السلام): «اِنَّ تَقْوى اللهِ مِفْتَاحٌ سَدَادٌ، وَذَخيرَةُ مَعَاد، وَعِتْقٌ من كُلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلكَة»(109).
جدير بالذكر أن التقوى ذات شعب وفروع، منها التقوى المالية والإقتصادية، والتقوى الجنسية والإجتماعية، والتقوى السياسية ... .

* * *


الآيات



إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ__ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى  أَبْصَـرِهِمْ غِشَـوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ__

التّفسير


المجموعة الثّانية: الكفّار المعاندون
هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماماً للمتقين، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء.
الآية الاُولى تقول: إن الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء، فهم متعنتون في كفرهم (إنّ الّذينَ كَفُروا سَواءٌ عَلَيهِم ءَأنذرتَهم أمْ لَم تُنذِرهُم لا يُؤمِنون) بعكس الطائفة الاُولى المستعدّة لقبول الحق لدى أول ومضة.
هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الإنصياع للحق حتى لو اتضح لديها. من هنا كان القرآن غير مؤثر في هؤلاء. وهكذا الوعد والوعيد، لأنهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والإستسلام له.
الآية الثّانية تشير إلى سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول: (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)، ولذلك استحقوا أن يكون (لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
أجهزة استقبال الحقائق معطوبة عند هؤلاء، العين التي يرى المتقون فيها آيات الله، والاُذن التي يسمعون بها نداء الحق، والقلب الذي يدركون به الحقائق، كلها قد تعطّلت وتوقفت عن العمل لدى الكافرين. هؤلاء لهم عيون وآذان وعقول، لكنهم يفتقدون قدرة «الرؤية» و«الإدراك» و«السمع». لأن انغماسهم في الإنحراف وعنادهم ولجاجهم كلها عناصر تشكل حجاباً أمام أجهزة المعرفة.
الإنسان قابل للهداية طبعاً ـ إن لم يصل إلى هذه المرحلة ـ مهما بلغ به الضلال، أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص «فلات حين نجاة» لأنه افتقد أدوات الوعي والفهم، ومن الطبيعي أن يكون في إنتظاره عذاب عظيم.

* * *


بحوث


1 ـ سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر.
أول سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ ...)فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجباراً، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه. أليس هذا بجبر؟ وإذا كان جبراً فلماذا العقاب؟
القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤلات ويقول: إن هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنتهم أمام الحق، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر. يقول تعالى: (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)(110) و يقول: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَار)(111) ويقول أيضاً: (اَفَرَاَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَاَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً)(112).
كل هذه الآيات تقرر أنّ السبب في سلب قدرة التشخيص، وتوقف أجهزة الإدراك عن العمل يعود إلى الكفر والتكبر والتجبر واتباع الهوى واللجاج والعناد أمام الحق، هذه الحالة التي تصيب الإنسان، هي في الحقيقة ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.
من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أن الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به، يتخذ في المرحلة الاُولى ماهية الـ«حالة» ثمّ يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» و جزءً من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبداً. لكن الإنسان إختار طريق الإنحراف هذا عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في المسألة جبر. تماماً مثل شخص فقأ عينيه وسدَّ أُذنيه عمداً، كي لا يسمع ولا يرى.
ولو رأينا أن الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله، فذلك لأن الله هو الذي منح الإنحراف مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة).
عكس هذه الظاهرة مشهود أيضاً في قوانين الطبيعة، أي إن الفرد السائر على طريق الطهر والتقوى والاستقامة تمتد يد الله عزوجل إليه لتقوّي حاسّة تشخيصه وإدراكه ورؤيته، هذه الحقيقة توضحها الآية الكريمة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا اِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً)(113).
يفي حياتنا اليومية صور عديدة لأفراد ارتكبوا عم محرّماً، فتألموا في البداية لما فعلوه واعترفوا بذنبهم، لكنهم استأنسوا تدريجياً بفعلهم، وزالت من نفوسهم حساسيتهم السابقة تجاه الذنب، ووصل أمرهم إلى حدٍّ يجدون اللذة والإنشراح في الإنحراف، وقد يضفون عليه صفة الواجب الإنساني أو الواجب الديني!!
وفي تأريخنا الإسلامي ظهر مجرمون سفّاكون مولعون بإزهاق الأرواح والتنكيل بالمسلمين كما ذكر في حالات «الحجاج بن يوسف الثقفي» أنه كان ييضع لأعماله الإجرامية تبريرات دينية، ويقول مث: إن الله سلّطنا على هؤلاء النّاس المذنبين لنظلمهم، فهم مستحقون لذلك!!
وكذلك قيل: إنّ جنود المغول خطب في أحد مدن ايران الحدودية وقال: ألستم تعتقدون أن عذاب الله يصيب المذنبين؟ فنحن عذاب الله عليكم، فلا ينبغي لكم المقاومة.
2 ـ لماذا يصرّ الأنبياء على هداية هؤلاء إذا كانوا لا يهتدون؟

وهذا سؤال آخر يُطرح في إطار الآيات المذكورة. والجواب عليه يتضح لوعرفنا أن العقاب الإلهي يرتبط بمواقف الإنسان العملية وسلوكه الفعلي، لا بما يُكنّه في قلبه من زيغ وضلال فقط. من هنا كان لابدّ من توجيه الدعوة حتى إلى هؤلاء الذين لا يهتدون، بعد ذلك يستحق الفرد العقاب تبعاً لموقفه من الدعوة. بعبارة اُخرى لابدّ من «إتمام الحجّة» قبل العقاب.
بعبارة موجزة: الثّواب والعقاب يتوقفان حتماً على العمل بعد إنجازه، لا على المحتوى الفكري والروحي للفرد.
أضف إلى ما سبق: أن الأنبياء بُعثوا للناس جميعاً، وهؤلاء الذين (طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) قليلون في المجتمع، أما الأكثرية فهم التائهون الذين يتقبّلون الهداية ضمن برنامج تعليمي تربوي صحيح.
3 ـ الختم على القلوب:

في الآيات المذكورة وآيات اُخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل «ختم»، وأحياناً بالفعل «طبع» و«ران».
في اللغة «خَتَمَ» الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم على الكتب والأبواب كي لا تُفتح، والختم اليوم مستعمل في الإستيثاق من الشّيء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة.
وهناك شواهد من التأريخ تدلّ على أن الملوك وأرباب السلطة كانوا سابقاً يختمون صرر الذهب بخاتمهم الخاص ويبعثون بها إلى المنظورين للاطمئنان على سلامة الصرر وعدم التلاعب في محتوياتها.
والشائع في هذا الزمان الختم على الطرود البريدية أيضاً، وقد استعمل القرآن كلمة «الختم» هنا للتعبير عن حال الاشخاص المعاندين الذين تراكمت الذنوب والآثام على قلوبهم حتى منعت كلمة الحق من النفوذ اليها وأمست كالختم لا سبيل إلى فتحه.
و«طبع» بمعنى ختم أيضاً.
أما «ران» فمن «الرين» وهو صدأ يعلو الشيء الجليّ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(114).
المهم أن الإنسان ينبغي أن يكون حذراً لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب.
في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): «مَا مِنْ عَبْد مُؤْمِن إلاّ وَفي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجُ فِي تِلْكَ النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ، فَإِنْ تَمَادى في الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غُطّيَ الْبَيَاضُ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَيْر أبَدَاً، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(115).
4 ـ المقصود من «القلب» في القرآن:

لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟!
الجواب على ذلك: أن القلب في القرآن له معان متعددة منها:
1 ـ بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)(116).
2 ـ بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه: (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)(117).
3 ـ بمعنى مركز العواطف كقوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ)(118)وقوله: (فَبَِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(119).
لمزيد من التوضيح نقول:
في وجود الإنسان مركزان قويّان هما:
1 ـ مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب. لذلك نشعر أننا نستقبل المسائل الفكرية بدماغنا حيث يتمّ تحليلها وتفسيرها. (وإن كان الدماغ والأعصاب في الواقع وسيلة وآلة للروح).
2 ـ مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر. والمسائل العاطفية تؤثر أول ما تؤثر على هذا المركز حيث تنقدح الشرارة الاُولى.
حينما نواجه مصيبة فإننا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما يغمرنا الفرح فاننا نحسّ بالسرور والإنشراح في هذا المركز (لا حظ بدقّة).
صحيح أن المركز الأصلي للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية، لكن المظاهر وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم والإدراك تظهر يأو في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.
ممّا تقدم نفهم سبب ارتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص)، وارتباط المسائل العقلية بالقلب (أي العقل أو الدماغ).
أضف إلى ما تقدم أنّ عضو القلب له دور مهم في حياة الإنسان وبقائه، وتوقفه لحظة يؤدي إلى الموت، فماذا يمنع أن تنسب النشاطات الفكرية والعاطفية إليه؟!
5 ـ لماذا جاءت «قُلُوبُهُمْ» و«أَبْصَارُهُمْ» بصيغة الجمع، و«سَمْعُهُمْ» بصيغة المفرد؟
يتكرر في القرآن استعمال القلب والبصر بصيغة الجمع: قلوب وأبصار، بينما يستعمل السمع دائماً بصيغة المفرد، فما السرّ في ذلك؟
قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى أن القرآن استعمل السمع والبصر بصيغة المفرد أيضاً كقوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)(120).
الشّيخ الطّوسي(رحمه الله)ي في تفسير «التبيان» ذكر نق عن لغوي معروف، أن سبب ذلك قد يعود إلى أحد أمرين: يأوّ: إن كلمة «السمع» قد تستعمل باعتبارها اسم جمع، ولا حاجة عندئذ إلى جمعها. ثانياً: إن كلمة «السمع» لها معنى المصدر، والمصدر يدل على الكثير والقليل، فلا حاجة إلى جمعه.
يويمكننا أن نضيف إلى ما سبق تعلي ذوقياً وعلمياً هو أن الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على «المسموعات»، ولذا جاءت القلوب والأبصار بصيغة الجمع، والفيزياء الحديثة تقول لنا إن الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين. (تأمل بدقة).

* * *


الآيات


وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوِمِ الاَْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ__ يُخَـدِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ  أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ__ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ__ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ __أَلاَ  إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ__ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ أَلاَ  إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهآءُ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ__ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَـطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ__ اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيـنِهِمْ يَعْمَهُونَ__ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَـلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجـرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ__

التّفسير


المجموعة الثّالثة: المنافقون
هذه الآيات تبين ـ باختصار وعمق ـ الخصائص الروحية للمنافقين وأعمالهم.
الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة.
هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغّلت في أعماق المسلمين، وشكّلت خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعباً لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بيّن بدقة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم.
الآيات المذكورة قبلها بيّنت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَاهُمْ بِمُؤْمِنينَ).
هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبدّدون بإنحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلاّ الخسران والعذاب الإلهي. (وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
في الآية التالية يبيّن القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض. الإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأن الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلى في كل وجوده، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.
وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنه نوع من التضاد والإنفصال في الشخصية الإنسانية: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).
وبما أنّ سنّة الله في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدّم لكل من يجهد في وضع قدمه على طريق. وبعبارة اُخرى: إن تكريس أعمال الإنسان وأفكاره في خط معين، تدفعه نحو الإنغماس والثبات في ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).
وبما أن الكذب رأس مال المنافقين، يبرّرون به ما في حياته من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: (وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
يثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أوّ أنهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: (وَإِذَا قَيِلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلاّ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ).
ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان، لو تمادى في الغيّ والضلال، يفقد قدرة التشخيص، بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.
علامتهم الاُخرى: إعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم ذووا عقل وتدبير، وأن المؤمنين سفهاء وبسطاء: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ، قَالُوا: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ؟!!).
وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الإنصياع للحق وإتباع يالدعوة الإلهية سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقّ ودراية!! غير أن الحقيقة عكس مايرون: (أَلاّ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ).
أليس من السفاهة أن لا يضع الإنسان لحياته خطاً معيناً، ويبقى يتلوّن بألوان مختلفة؟! أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان وحدة شخصيته، ويتجه نحو إزدواجية الشخصية وتعدّد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟!
العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلوّنهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: آمَنَّا، وَإِذَا خَلَوا إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إنّا مَعَكُمْ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ)!.
يؤكدون لشياطينهم أنهم معهم، وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري، هدفه الإستهزاء.
وبلهجة قويّة حاسمة يردّ القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: (اللهُ يَسْتَهْزِيءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(121).
الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة: (اُولئكَ الّذِينَ اشتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ).

* * *


بحوث


1 ـ ظهور النّفاق وأسبابه:
حينما تندلع الثورة في منطقة معينة فإنّ مصالح الفئة الظالمة الناهبة المستبدة تتعرض للخطر حتماً، خاصة إذا كانت الثورة مثل ثورة الإسلام تقوم على أساس الحقّ والعدالة. هذه الفئة تسعى للإطاحة بالثورة عن طريق يالسخريّة والإستهزاء أوّ، ثُمّ بالإستفادة من القوة المسلحة والضغوط الإقتصادية، والتضليل الإجتماعي.
وحين تبدو في الأُفق علامات انتصار الثورة تعمد فئة من المعارضين إلى تغيير موقفها، فتستسلم ظاهرياً، وتتحول في الواقع إلى مجموعة معارضة سريّة.
هؤلاء يسمّون «منافقين» لإنطوائهم على شخصيتين مختلفتين (المنافق مشتقة من النفق: وهو الطريق النافذ في الأرض المحفور فيها للإستتار أو الفرار)، وهم أخطر أعداء الثورة، لأن مواقفهم غير واضحة، والاُمّة الثائرة لا تستطيع أن تعرفهم وتطردهم من صفوفها، لذلك يتغلغلون في صفوف النّاس المخلصين الطيبين، ويتسلمون أحياناً المناصب الحساسة في المجتمع.
ثورة الإسلام في عصرها الأوّل واجهت مثل هذه المجموعة. فبعد الهجرة المباركة وضعت أول لبنة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وازداد الكيان الإسلامي الوليد قوة بعد إنتصار المسلمين في غزوة «بدر». وهذه الإنتصارات عرضت للخطر مصالح زعماء المدينة، وخاصة اليهود منهم، لأن اليهود كانوا يتمتعون في المدينة بمكانة ثقافية واقتصادية مرموقة. وهؤلاء أنفسهم كانوا يبشّرون قبل البعثة النّبوية المباركة بظهور النّبي.
كما كان في المدينة أفراد مرشحون للزعامة والملكية، لكن الهجرة النّبوية بدّدت آمال هؤلاء المتضررون من الدعوة رأوا أن الجماهير تندفع نحو الإسلام، وتنقاد إلى النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى عمّت الدعوة ذويهم وأقاربهم.
وبعد مدّة من الدين الجديد، لم يروا بدّاً من الإستسلام والتظاهر بالإِسلام، تجنباً لمزيد من الأخطار الإقتصادية والإجتماعية وحذراً من الإبادة، خاصة وأن قوّة العربي تتمثل في قبيلته، والقبائل أسلمت للدين الجديد لكن هؤلاء راحوا يخططون خفية للإطاحة بالإسلام.
بعبارة موجزة، إن ظاهرة «النفاق» في المجتمع، تعود إلى عاملين: أحدهما، إنتصار الثورة وسيطرة الرسالة الثورية على المجتمع، والآخر: انهزام المعارضين نفسياً، وفقدانهم للشجاعة الكافية لمواجهة المدّ الجديد، واضطرارهم إلى الإستسلام الظاهري أمام الدعوة.

* * *


2 ـ ضرورة معرفة المنافقين في كل مجتمع:

ظاهرة النفاق والمنافقين لا تختص ـ دون شك ـ بعصر الرسالة الأول، بل هي ظاهرة عامة تظهر بشكل وآخر في كل المجتمعات. من هنا لابدّ للجماعة المسلمة أن تعرف أوصافهم كما جاء في القرآن، كي تحبط مؤامراتهم وتقف بوجههم. في الآيات السابقة وفي سورة المنافقين وهكذا في النصوص الإسلامية وردت للمنافقين أوصاف مختلفة منها:
1 ـ كثرة الضجيج والإدعاءات الفارغة، أو بعبارة اُخرى: كثرة القول وقلّة العمل المفيد المتزن.
2 ـ التلوّن والتذبذب، فمن المؤمنين يقولون «آمنا» ومع المعارضين يقولون «إنّا معكم».
3 ـ الإنفصال عن الاُمّة، وتشكيل الجمعيات السرية وفق خطط مبيّتة.
4 ـ المكر والخداع والكذب والتملق والنكول والخيانة.
5 ـ التعالي على النّاس، وتحقيرهم، واعتبارهم بلهاء سفهاء، إلى جانب الإعتداد بالنفس.
على أي حال، إزدواجية الشخصية، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والإجتماعي.
وما أجمل تعبير القرآن في حقّ هؤلاء إذ يقول: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، وأيّ مرض أسوأ من إزدواجية الظاهر والباطن، ومن التعالي على النّاس؟!!
هذا المرض مثل سائر الأمراض الخفية التي تصيب القلب لايمكن اخفاؤه تماماً، بل تظهر علائمه بوضوح على جميع أعضاء الإنسان.
في مجلدات هذا التّفسير شرح أوفى لحالة النفاق والمنافقين لدى البحث في الآيات 141 ـ 143 من سورة النساء (المجلد الثالث).
وفي الآيات 49 ـ 57 من سورة التّوبة (المجلد السادس).
وفي الآيات 62 ـ 85 من سورة التوبة أيضاً (المجلد السادس).

* * *


3 ـ سعة معنى النفاق:

النفاق في مفهومه الخاص ـ كما ذكرنا ـ صفة أُولئك الذين يظهرون الإِسلام، ويبطنون الكفر. لكن النفاق له معنىً عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل. من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه «خيوط النفاق».
ففي الحديث النّبوي: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: مَنْ إِذَا ائْتُمُنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ»(122).
الحديث لايدور هنا طبعاً عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل رياء، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «أَلرِّيَاءُ شَجَرَةٌ لاَ تُثْمِرُ إِلاَّ الشِّرْكَ الْخَفِيَّ، وَأَصْلُهَا النِّفَاقُ»(123).
وفي نهج البلاغة نصّ رائع في وصف المنافقين عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)يقول فيه:(124) «أُوصِيكُمْ عِبَادَ الله بِتَقْوَى الله، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ المُضِلُّونَ، وَالزّالُّونَ الْمُزِلُّونَ(125)، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَانَاً، وَيَفْتَنُّونَ إفْتِنَاناً(126)، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَاد، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَاد، قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ(127) وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ. يَمْشُونَ اَلْخَفَاءَ(128)، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءُ، وَفِعْلُهُمْ الدّاءُ الْعَيَاءُ(129)، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ(130)، وَمُؤَكِّدُو الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ، لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيق صَرِيعٌ(131) وَإِلى كُلِّ قَلْب شَفِيعٌ، وَإِلَى كلِّ شَجْو دُمُوع(132) يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ(133) وَيَتَراقَبُونَ الْجَزَاءً: إِنْ سَأَلُوا اَلْحَفُوا(134)، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا ...».

* * *


4 ـ مؤامرة المنافقين:

المنافقون يشكّلون أخطر تجمع معارض، لا على الإسلام فحسب، بل على كلّ رسالة ثورية تقدمية، حيث ينفذون بين صفوف المسلمين، ويستغلّون كل فرصة للتآمر.
يتحدّث القرآن عن تآمر هؤلاء في صدر الإسلام ويذكر نماذج من أعمالهم. ييذكر مث استهانة هؤلاء بشخصية المؤمنين، وبما يقدمه المؤمنون على قدر طاقتهم من صدقات فيقول: (اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعيِنَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَيَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ)(135).
ويتخذون أحياناً في اجتماعاتهم السريّة قرارات بشأن قطع مساعدتهم المالية لأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كي يتفرقوا عن الرسالة والرّسول: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتى يَنْفَضُّوا، وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ)(136).
كما يتخذون القرارات بإخراج المؤمنين من المدينة بعد انتهاء الحرب والعودة إلى المدينة: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)(137).
وكانوا يتخلفون عن الجهاد بمبررات مختلفة من قبيل الانشغال بالحصاد يمث، ويتركون الرّسول في ساعات الشدّة. وهم مع ذلك خائفين من انفضاح أمرهم وانكشاف سرّهم.
بسبب هذه المواقف العدائية التآمرية ركز القرآن على التنديد بالمنافقين في يمواضع عديدة، واحتوت سورة المنافقين عرضاً مفصّ لوضعهم. كما تضمنت سورة التوبة والحشر وسور اُخرى حملات شديدة على المنافقين، وتحدثت ثلاث عشرة آية من سورة البقرة عن صفاتهم وعواقب مكرهم.

* * *


5 ـ خداع الضمير:

المنافقون يشكلون مشكلة كبرى للمسلمين، ذلك لأن المسلمين مكلفون ـ من جهة ـ باحتضان كلّ من يظهر الإسلام وبالإمتناع عن تفتيش عقائد الأفراد، ومسؤولون ـ من جهة اُخرى ـ عن الحذر من مؤامرات المنافقين وتحركاتهم المشبوهة التي يستهدفون منها الوقوف بوجه الرسالة، وإن اتخذت هذه التحركات صفة إسلامية ظاهرية.
المنافقون يظنون أنهم بعملهم هذا يستطيعون أن يخدعوا المسلمين ويمرروا عليهم مؤامراتهم، بينما هؤلاء يخدعون أنفسهم.
التعبير القرآني (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يوضّح مفهوماً دقيقاً، فكلمة يخادعون تعني الخداع المشترك من الطرفين، وتبين أن هؤلاء المنافقين كانوا يعتقدون ـ لعمى بصيرتهم ـ أنّ النّبي خدّاع توسّل بالدين والنبوّة وجمع حوله السذّج من النّاس ليكون له حكم وسلطان، ومن هنا راح المنافقون يتوسلون بخدعة لمقابلة خدعة النّبي! فالتعبير القرآني المذكور يوضّح إذن لجوء المنافقين إلى الخدعة، ويبين كذلك نظرة هؤلاء الخاطئة إلى النّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم تردّ الآية الكريمة على هؤلاء وتقول: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)، فالفعل «يخدعون» يوضِّح أنّ الخداع من جانب المنافقين فقط، وتؤكد الآية أيضاً أنهم يخدعون أنفسهم دون أن يشعروا، لأنهم يبددون بأفعالهم هذه طاقاتهم العظيمة على طريق الإنحراف، ويحرمون أنفسهم من السعادة التي رسم الله طريقها لهم، ويغادرون الدنيا وهم صفر اليدين من كل خير، مثقلون بأنواع الذنوب والآثام.
لا يمكن لأحد أن يخدع الله طبعاً لأنه سبحانه عالم بالجهر وما يخفى، وتعبير «يخادعون الله» إمّا أن يكون المقصود به يخادعون الرّسول والمؤمنين، لأن من يخدع الرّسول والمؤمنين فكأنه خدع الله (في القرآن مواضع كثيرة عظم فيها الله رسوله والمؤمنين إذ قرن اسمهم باسمه).وإمّاأن يكون نقص العقلوسوءالفهم قد بلغ بالمنافقين حداً تصوروا معه أنهم قادرون على أن يخفوا على الله شيئاً من أعمالهم (شبيه ذلك ماورد في آيات اُخرى من كتاب الله العزيز).
على أيّ حال، الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان، وأن الإنسان المنحرف الملوث كثيراً ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعاً بأن قبائحه ليست يعم إنحرافياً، بل هي أعمال إصلاحية (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، وبذلك يخدعون أنفسهم، ويستمرون في غيّهم.
ذكر أنّ أحد القادة الأمريكيين وجّه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي (هيروشيما وناكازاكي) اليابانيتين ممّا أدّى إلى مقتل مأئتي ألف إنسان بريء أو أصابتهم بالعاهات، فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام! ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثر، ولذهب ضحيتها عدد أكبر من القتلى!!
المنافقون في كل عصر وفي عصرنا هذا يتشبثون بمثل هذه الأقاويل لخداع النّاس وخداع أنفسهم، فهذا الزعيم الأمريكي يضع أمامه طريقين فقط هما: إستمرار الحرب أو القصف الذري للمدن الآمنة، متناسياً طريقاً ثالثاً واضحاً وهو الكف عن الإعتداء على الشعوب وترك النّاس أحراراً مع ثرواتهم! وممّا تقدم يتضح أن النفاق وسيلة لخداع الضمير وشلّ مفعوله، وما أخطر عملية شلّ الضمير الإنساني، الذي يعتبر الواعظ الداخلي والرقيب اليقظ الأمين والمندوب الإلهي في نفس الإنسان!!.

* * *


6 ـ التجارة الخاسرة:

شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة. ونحن في الحياة الدنيا تجار نأتي إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه لنا الله سبحانه، وعناصره العقل والفطرة والعواطف والطاقات الجسميّة المختلفة ومواهب عالم الطبيعة، ثم قيادة الأنبياء، جمع يربحون ويفوزون ويسعدون، وجمع لا يجنون ربحاً، بل أكثر من ذلك يفقدون رأس مالهم، ويفلسون بكل ما لهذه الكلمة من معنى. المجاهدون في سبيل الله من أفراد الجمع الأول، ويقول عنهم الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم؟ تؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ بَأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(138).
والمنافقون من أبرز نماذج الجمع الثاني، فبعد أن يذكر القرآن أعمالهم التخريبية المتلبسة بظاهر الإصلاح والتعقّل يقول عنهم: (أولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَة بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَاكَانُوا مُهْتَدِينَ).
كان بمقدور هؤلاء أن ينتخبوا أفضل طريق لحياتهم، لأنهم كانوا يعيشون إلى جانب ينبوع الوحي الصافي، وفي جوّ مفعم بالصدق والإخلاص والإيمان. لكنهم فوّتوا على أنفسهم هذه الفرصة الفريدة العظيمة، وأضاعوا ما وهبهم الله من هداية فطرية في ذواتهم، ومن هداية تشريعية في إطار نور الوحي، واشتروا الضلالة وسلكوا طريقاً خالوا أنهم يستطيعون به أن يقضوا على الدعوة ويصلوا إلى مآربهم الخبيثة.
وكان في هذه المقايضة الخاطئة خسارتان:
الاُولى: ضياع ثرواتهم المادية والمعنوية. والثانية: فشلهم في تحقيق أهدافهم المشؤومة. فالإسلام سرعان ما ضرب بجرانه في أرجاء الأرض فاضحاً خطط المنافقين.

* * *


اسم الکتاب : تفسير الأمثل المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    الجزء : 1  صفحة : 5
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست