responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : دُرُوسٌ في عِلْمِ الأُصُول (الحَلَقَةُ الرّابِعَة) المؤلف : آل فقيه العاملي، ناجي طالب    الجزء : 1  صفحة : 732

ولو الضعيفة ، تسهيلاً على الناس ، ورحمةً عليهم ومَنّاً ، إذ لو شرّع اللهُ جلّ وعلا الإستصحابَ في خصوص حالات الظنّ بـبقاء الحالة السابقة لوقع الناسُ في الحرج ، فيقول أحدهم كلّ مرّة : هل هذا الماء الذي وقع عليّ نجّسني أم لا ؟ وهل أنا أظنّ بنجاسة هذا الماء أم لا ؟ وهل هذا اللون وهذه الرائحة تورث الظنَّ بنجاسة هذا الماء أم لا ؟ وهل أنا أظنّ بوصول الماء إلى ثوبي أم لا ؟ وهكذا ... فيقع الناس في وسوسة لا مثيل لها .

 

* البحث الثالث : هل الإستصحاب مسألةٌ اُصوليّة أم قاعدة فقهيّة ؟

الجواب : لا شكّ في أنّ الإستصحاب هو قاعدة فقهيّة ومسألةٌ فرعيّة ، وذلك لأنّها عندنا لا تجري إلاّ في الشبهات الموضوعيّة ، فهي يُجريها العامّيُّ ، كما يجريها الفقيهُ ، ولا يُستـنبَطُ منها حُكْمٌ شرعيّ كلّي أصلاً ، فهي إذن قاعدةٌ فِقهيّة لا غير ، كقواعد الضرر والحرج وقاعدةِ الطهارة التي تَجري في الشبهات الموضوعيّة وكقواعد الفراغ[738] والتجاوز واليد وسوق المسلمين ، يطبّقها العاميُّ على الموارد الخارجيّة ، ويَستـنبطُ منها وظيفةً عمليّةً جزئيّة ، لا حكماً شرعيّاً .


[738] نظرةٌ مختصرة إلى قاعدة الفراغ

كَثُرَ مِنّا في هذا الكتابِ القولُ بأمارية قاعدة الفراغ ولم نـتطرّق لإثبات ذلك ، وذلك لسبـَبين : الأوّل أنّا بحثـنا مطوّلاً حول إثبات أمارية قاعدة الفراغ في كتابنا الطهارة ، وثانياً لعدم كون إثبات ذلك من وظيفة علم الأصول ، وإنما البحث في قاعدة الفراغ يجب أن يكون في عِلم القواعد الفقهية لأنها قاعدة فقهية وليست مسألةً أصولية يُستـنبَطُ منها أحكامٌ شرعية ، لكننا ـ رغم ذلك ـ رأينا ـ فيما بَعدُ ـ لزومَ النظر ولو باختصار في إثبات كون قاعدة الفراغ أمارةً وليست أصلاً عملياً محرِزاً كما ادّّعى سيّدُنا الشهيد في الحلقة الثالثة في بحث الأصول التـنـزيلية والمحرِزة ، ولعلّ دليله هو أنّه ليس في قاعدة الفراغ ادّعاءُ الكاشفيةِ كما كان الحالُ في خبر الثقة والبَـيِّنة وسوق المسلمين واليد ،فرأى أنّ السبب في تشريع قاعدة الفراغ هو أهميّة المحتمل لا كاشفيةَ الإحتمال .

لكنّ الصحيح هو أنك إذا لاحظتَ رواياتِ قاعدة الفراغ لرأيتَ أنّّ الشارع المقدّس يعتبرها أمارةً لكاشفيّتها ، فقاعدةُ الفراغ لا تجري إلاّ فيما إذا كان الشخصُ يَعلم بالحكم والموضوع وشكّ ـ بعد الفراغ من العمل ـ في أنه هل تصرّفَ بشكل صحيحٍ أم أنه ـ حين العمل ـ كان ساهياً أو ناسياً لبعض الشرائط أو الأجزاء أو أنه أخطأ في العمل لعدم التـفاته ، فلو شكّ العاقلُ الذي عَقَدَ عقداً على امرأةٍ أو على بـيتٍ أو على غير ذلك أو طلّق زوجتَه ثم شكّ في صحّة عقده على المرأة أو على البـيت ونحو ذلك فإنه لا محالةَ يـَبني على صحّة عقوده وإيقاعاته ، وما ذلك إلاّ لأنّ العقلاء يرَون بأنّ قاعدة الفراغ هي أمارة بلا شكّ .

وأمّا دليلُنا الروائي فهو :

ما رواه في الفقيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : إذا شكّ الرجل بعدما صلّى فلم يدرِ أثلاثاً صلّى أم أربعاً وكان يقينُه حين انصرف أنه كان قد أتمّ لم يُعِدِ الصلاةَ ، وكان حين انصرف أقربَ إلى الحقّ منه بعد ذلك ، ورواها ابنُ إدريس في آخر السرائر نـقلاً من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن محمد بن مسلم ، صحيحة السند .

لاحِظْ هذه الرواية ـ ومثلُها ما بَعدها ـ تعرف أنّ هذا الشخص الشاكّ كان يعرف كيفية الصلاة ، إلاّ أنه شكّ ـ بعد الفراغ من الصلاةـ في صحّة عمله ، فهنا من المؤكّد أنّ العقلاء سيقولون له يجب عليك أن تبني على أنك كنت ملتـفتاً حين العمل وأنّ الأصل العقلائي هو أنك لم تَسْهُولم تخطئ ولم تـنسَ ، فيجب عليك أن تبني على صحّة العمل وعدم الوسوسة بعد الفراغ ، وهذا تماماً هو الذي صدر من الشارع المقدّس ، لا أكثر .

وروى في التهذيب بإسناده ـ الصحيح ـ عن الحسين بن سعيد عن فُضالة (بن أيوب) عن أبان بن عثمانعن بُكَير بن أعيَن (مستقيم جداً ومشكور جداً) قال قلت له : الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ ؟ قال :هو حين يتوضّأُ أذكرُ منه حين يشكّ. أقول : هذه الرواية ـ ظاهراً ـ مرويّةٌ عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) ذلك لأنّ بُكَيراً هذا يروي رواياتِ الوضوء عنه (ع) . وعلى أيّ حال لا شكّ في أنّ بُكَيراً لم يروِ هذه الروايةَ عن غير المعصوم وإلاّ لكان غاشّاً في أسانيد الروايات بل لكان غاشّاً في دين الله عزّ وجلّ ، وحاشا لمثل بُكَير أن يرتكبَ مِثلَ هذا . المهم هو أنّ هذه الرواية موثّـقة السند . وكما قلنا في الرواية السابقة ، هو بعد الفراغ قد يَنسَى ، فمن الطبـيعي أن يقول له الشارعُ المقدّس والعقلاءُ إبنِ على صحّة العمل .

وهذا التعليل العقلائي من الإمام (ع) يفيدنا أيضاً أنّ قاعدة الفراغ هي قاعدة عقلائية ، لا محض تعبّدٍ من دون سبب عقلائي ، وبالتالي هي أمارة بوضوح لا أصلاً . ولذلك تلاحظ أنّ كلّ اللوازم تَـثبُتُ بقاعدة الفراغ ، فهي من قبـيل البناء على أصالة الصحّة في عمل الغير وعلى صحّة العقود والطلاقات والإجارات وما يترّتّب على ذلك وعلى تذكية اللحم المشترَى من سوق المسلمين وعلى طهارة مأكولاتهم ...

مثال ذلك : لو كان محل وضوئه من بدنه نجساً فتوضّأ وشكّ بَعده في أنه طهّره أم لا فإنه يـَبني على التطهير قبل الوضوء فلا يجب التطهير لما يأتي من أعمال ، وكذا وضوؤه محكوم بالصحّة ، ودليل المسألتين قاعدة الفراغ ، فإنّ التطهير مقدّمة شرعية ومتشرّعية للوضوء ، ولذلك يدخل في مقدّمات الوضوء ، فيـبني على التطهير ، إلاّ مع علمه بعدم التـفاته حين الوضوء إلى الطهارة والنجاسة ، والروايتان السابقتان صريحتان في ذلك .

وقريب منهما صحيحة الفضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله t: أستـتمّ قائماً فلا أدري ركعتُ أم لا ؟ قال : بلى قد ركعتَ ، فامضِ في صلاتك ، فإنما ذلك من الشيطان فلم يقل الإمام (إبنِ على صحّة العمل) وإنما قال بلى قد ركعتَ أي بناءً على أصالة أنّ الإنسان حين العمل يكون أذكرَ منه حين الفراغ يجب أن يقول له العقلاء (بلى قد ركعت) وذلك لأصالة الإلتـفات العقلائية أو قُلْ لأصالة الصحّة العقلائية ، إذن فهذه الرواية إشارةٌ إلى كون قاعدة الفراغ أمارة لا أصلاً عملياً ، وأنّ الإمام (ع) حين اعتبره قد ركع فإنّ ذلك يعني أنّ عليه أن يـبني على التـفاته حين العمل ، وأنّ شكّه بعد الصلاة وسوسةٌ من الشيطان .

فإذن النظرُ في هذه الروايات إنما هو إلى احتمال طروء الغفلة أو السهو أو النسيان فنفاها الشارع المقدّس ، واعتبر الشخص ـ الذي هو في مقام الإمتـثال ـ ملتـفتاً .

*وقد تقول : يوجد إطلاقات يمكن الإعتماد عليها وهي لا تشترط أن يكون عند الشخص علم بالموضوع والحكم وأن يكون محتملاً للإلتـفات أثـناء العمل وهي :

ما رواه في التهذيب بإسناده ـ الصحيح ـ عن أحمد بن محمد (بن عيسى) عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حمّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارةَ قال قلت لأبي عبد الله (ع) : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ؟ قال : يمضي ، قلت : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر ؟ قال : يمضي ، قلت : رجل شكّ في التكبـير وقد قرأ ؟ قال : يمضي ، قلت : شكّ في القراءة وقد ركع ؟ قال : يمضي ، قلت : شكّ في الركوع وقد سجد ؟ قال : يمضي على صلاته ، ثم قال : يا زرارة ، إذا خَرَجْتَ من شيءٍ ثم دخلتَ في غيره فشكُّك ليس بشيء صحيحة السند .

وفي التهذيب أيضاً عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال : كلُّ ما شككتَ فيه بعدما تـفرغ من صلاتك فامضِ ولا تُعِد صحيحة السند أيضاً .

أقول : هاتان الروايتان واردتان في الصلاة ، والمسْلِمُ يعرِفُ عادةً كيفيةَ الصلاة وأنها واجبة ، وهو عادةً أو غالباً ملتـفتٌ لصلاته ولأجزائها وشروطها وموانعها ، فيجب أن تأتيَ مثلُ هذه الروايات ، فهي إذن لا تعارض الطائفة الاُولى من الروايات ، فيجب ح أن نأخذ بالطائفة الاُولى من غير تردّد ، وهي الطائفة التي نفهم منها اشتراطَ العلم بالموضوع والعلم بالحكم واحتمال الإلتـفات . ولك أن تقيّد الطائفةَ الثانيةَ بالطائفة الاُولى كما هو دأبُ العلماء .

وعلى فرض أنك شككت في جريان الفراغ في غير حالة العلم بالموضوع والحكم واحتمال السهو والنسيان والخطأ فإنّ عليك أن لا تأخذ بهذه القاعدة ، لأنّ الأصل عدمُ تشريعها في غير ما ذكرنا ، أو قُلْ الأصلُ عدمُ الجَعل الزائد .

وعلى أيّ حال ، فلا شكّ في تقدّم قاعدة الفراغ على الإستصحاب بالورود ، بمعنى أنها تُلغي موضوعَ الإستصحاب تعبّداً ، ولا سيّما على قولنا بأمارية الفراغ وكون الإستصحاب أصلاً عملياً .

وأمّا ما ورد في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد (بن عيسى أو ابن خالد) عن علي بن الحكم (ثقة جليل القدر) عن الحسين بن أبي العلا (موثّق عندي) قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن الخاتم إذا اغتسلتُ ؟ قال : حوِّلْه مِن مكانه ، وقال في الوضوء : تُدِرْهُ ، فإنْ نسيتَ حتى تقوم في (من ـ خ ) الصلاة فلا آمُرُك أن تعيدَ الصلاةَ مصحّحة السند ) فلا يمكن الأخذُ به ، لعدم إمكان القول بصحّة الصلاة من دون وضوء صحيح ، فنردّها إلى أهلها .

المهمّ ما نريد أن نـقوله هو أنّ قاعدة الفراغ هي من قبـيل أصالة الصحّة في عمل الغير تماماً ، فكما قالوا بأمارية أصالة الصحّة فيجب أن يقولوا بأمارية قاعدة الفراغ لنفس السبب ، وبتعبـيرٍ آخر : إذا كنـتم تقولون بأنّ الأمارة هي ما تدعي إصابة الواقع وهي توافق الواقعَ غالباً وهذا السرّّ موجود في أصالة الصحّة وسوق المسلمين واليد وخبر الثقة ، فإنّا نقول هذا الملاكُ موجودٌ بعَينِه في قاعدة الفراغ ، فإنها قاعدة الصحّة بعَينِها ، لكنْ في عمل النفس ، وأصالة الصحّة هي في عمل الغير ، فلا فرق بـينهما من ناحية غالبـيّة الموافقة للواقع وفي كون الإنسان ملتفتاً غالباً إلى أعماله حين العمل .

 

 

اسم الکتاب : دُرُوسٌ في عِلْمِ الأُصُول (الحَلَقَةُ الرّابِعَة) المؤلف : آل فقيه العاملي، ناجي طالب    الجزء : 1  صفحة : 732
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست