responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الـفتوحات المکیة المؤلف : ابن عربي، محيي الدين    الجزء : 3  صفحة : 551

فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ و هذا معنى قوله صِرٰاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي الطريق الذي أنعمت بها عليهم و هي الرحمة التي أعطتهم التوفيق و الهداية في دار التكليف و هي رحمة عناية فكانوا بذلك غير مغضوب عليهم و لا ضالين لما أعطاهم من الهداية فلم يحاروا يقول من غضب اللّٰه عليه امنن علينا بالرحمة التي مننت بها على أولئك ابتداء من غير استحقاق حتى وصفتهم بأنهم غير مغضوب عليهم إذ قد مننت عليهم بالهداية فأزالت الضلالة التي هي الحيرة عنهم فمن بالذي يزيل ما استحققناه من غضب اللّٰه فيرحمهم اللّٰه برحمة الامتنان و هي الرحمة التي في الآية الثالثة بالاسم الرحمن فيزيل عنهم العذاب و يعطيهم النعيم فيما هم فيه بالاسم الرحيم فليس في أم الكتاب آية غضب بل كلها رحمة و هي الحاكمة على كل آية في الكتاب لأنها الأم فسبقت رحمته غضبه و كيف لا يكون ذلك و النسب الذي بين العالم و بين اللّٰه إنما هو من الاسم الرحمن فجعل الرحم قطعة منه فلا تنتسب الرحم إلا إليه و ما في العالم إلا من عنده رحمة بأمر ما لا بد من ذلك و لا يتمكن أن تعم رحمة المحدث رحمة القديم في العموم لأن الحق يعم علمه كل معلوم و الحق لا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء فيرحم الخلق على قدر علمهم كما رحم اللّٰه على قدر علمه فكل من غضب من العالم و انتقم فقد رحم نفسه بذلك الانتقام فإنه شفاء له مما يجده من ألم الغضب و صدقة الإنسان على نفسه أفضل الصدقات فإذا رحم نفسه و زال الغضب أعقبته الرحمة و هي الندم الذي يجده الإنسان إذا عاقب أحدا و يقول لو شاء اللّٰه كان العفو عنه أحسن لا بد أن يقول ذلك إما دنيا و إما آخرة في انتقامه لنفسه لئلا يتخيل أن إقامة الحدود من هذا القبيل فإن إقامة الحدود شرع من عند اللّٰه ما للإنسان فيها تعمل فقد وصل الإنسان بهذا الفعل رحمه و إليه وصول الرحمة فلا بد أن ينال الخلق كلهم رحمة اللّٰه فمنهم العاجل و الآجل لأنه ما ثم إلا من وصل رحمه فوصله اللّٰه من ذلك الوجه و من قطع رحمه أي بعض رحمه لأن القطع لا يتمكن له أن يعم فإن عين قطع رحم خاص وصل رحم آخر له ففي قطعه وصل و ما في وصله قطع فيشفع الموصول من الأرحام و الشفاعة مقبولة و يقيم الوزن على المقطوع بالتعريف فإنه لا بد أن يكون أيضا ذلك المقطوع قد قطع رحما له فإذا طلب ممن قطع صلة الرحم عنه يقول له الحق كما آخذ لك آخذ منك و يعلمه بأنه أيضا قد قطع رحما له فيسأل اللّٰه العفو و التجاوز فيقول اللّٰه له فاعف أنت عن قاطع رحمه فيك حتى أعفو عنك فبالضرورة يقول قد عفوت لأن ذلك الموطن يطلب من الخائف طلب العفو فيعفو فيعفو اللّٰه عنه فتناله رحمة اللّٰه بعفو هذا و يوصل رحم آخر له فيشفع فيه و هذا معنى

قول اللّٰه عز و جل يوم القيامة شفعت الملائكة و شفع النبيون و المؤمنون و بقي أرحم الراحمين فيكون منه في عباده ما ذكرناه و أمثاله من كل ما يستدعي الرحمة فإن رحمة اللّٰه سبقت غضبه فهي إمام الغضب فلا يزال غضب اللّٰه يجري في شأوه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبيد المغضوب عليهم فتنبسط عليهم و يرجع الحكم لها فيهم و المدى الذي يعطيه الغضب هو ما بين اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الذي في البسملة و بين اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الذي بعد قوله اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ فالحمد لله رب العالمين هو المدى فأوله اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ و انتهاؤه اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ و إنما كان اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ عين المدى فإن في هذا المدى تظهر السراء و الضراء و لهذا كان فيه الحمد و هو الثناء و لم يقيد بضراء و لا سراء في هذا المدى لأنه يعم السراء و الضراء

فكان رسول اللّٰه ص يقول في السراء الحمد لله المنعم المفضل و في الضراء الحمد لله على كل حال فحمد اللّٰه قد جاء في السراء و الضراء فلهذا كان عين المدى و ما من أحد في الدار الآخرة إلا و هو يحمد اللّٰه و يرجو رحمته و يخاف عذابه و استمراره عليه فجعل اللّٰه عقيب قوله اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ قوله اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ فالعالم بين هذه الرحمة و رحمة البسملة بما هو عليه من محمود و مذموم و هذا شبيه بما جاء في سورة أ لم نشرح قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ثم إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً و لقد أنشد بعضهم في هذا

إذا ضاق بك الأمر
لأنه سبحانه نكر اليسر و أدخل الألف و اللام اللتين للعهد و التعريف على العسر أي هذا العسر الثاني هو عين الأول و ليس ذلك في اليسر و هو تنبيه عجيب من اللّٰه لعباده ليقوى عندهم الرجاء و الطمع في رحمة اللّٰه فإنه أرحم الراحمين فإنه إن لم يزد على عبيده في الرحمة بحكم ليس لهم فما يكون أرحم الراحمين و هو أرحم الراحمين بلا شك فو الله لا خاب من

اسم الکتاب : الـفتوحات المکیة المؤلف : ابن عربي، محيي الدين    الجزء : 3  صفحة : 551
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست