responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الـفتوحات المکیة المؤلف : ابن عربي، محيي الدين    الجزء : 3  صفحة : 33

كل واحدة منهما يظهر سلطانها في المزاج الإنساني الحيواني فلو جعل الحرارة الدموية تليها فلا بد إن كان يليها من الصفراء إما الحرارة أو اليبوسة فإن وليتها اليبوسة و هي المنفعلة عن الحرارة فكان اليبس يتقوى سلطانه في الجسم فيؤدي إلى دخول المرض عليه فيحول المرض بينه و بين ما كلفه رب الجسم أن يشتغل به من العلوم و اقتنائها و الأعمال الموصلة إلى السعادة و كذلك لو جاورتها حرارة الصفراء لزادت في كمية الصفراء فيعتل فلهذا كانت الرطوبة مما يلي الصفراء ثم إنه تعالى زوج بين البرودة و الرطوبة فكان من هذا الاختلاط البلغم فجعل الرطوبة البلغمية مما يلي الحرارة الدموية و لو لم يكن كذلك لكان كما ذكرناه أولا من دخول العلة و السقم للزيادة في الكمية في ذلك الخلط ثم زوج بين البرودة و اليبوسة فكان من ذلك المزج المرة السوداء فجعل اليبوسة من السوداء مما يلي الرطوبة من البلغم و لم يجعل البرودة من السوداء تليها لئلا تزيد في كمية رطوبة البلغم فإن الرطوبة منفعلة عن البرودة فإذا حصلت بين برودة البلغم و برودة السوداء تضاعفت و زادت كمية البلغم فدخلت العلة و المرض على الجسم فإنها قابلة للانفعال فانظر لحكمة اللّٰه في هذه النشأة و هذا لبقاء الصحة على هذا الجسم الذي هو مركب هذه اللطيفة ليوصلها إلى ما دعاها إليه ربها عز و جل فهذا المركب الجسمي يستولي عليه الروح الإلهي فإذا تغشاه حمل فينتج أعمالا إما صالحة و هي المخلقة و إما فاسدة و هي غير المخلقة و ظهرت هذه الأعمال في صور مراكب فإن كانت صالحة صعدت به إلى عليين قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أي الأرواح الطيبة فإنها كلمات اللّٰه مطهرة قال تعالى وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ و قال وَ الْعَمَلُ الصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ كذلك إذا كان العمل فاسدا يهوى به إلى أسفل سافلين قال تعالى ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ أي هوى به مركبه و قد كان في أحسن تقويم إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ فإن عمله يصعد به إلى عليين فيكون له أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ و هو الأجر المكتسب و لا يكون الأجر إلا مكتسبا فإن أعطى ما هو خارج عن الكسب لا يقال فيه أجر بل هو نور و هبات و لهذا قال في حق قوم لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ فأجرهم ما اكتسبوه و نورهم ما وهبهم الحق تعالى من ذلك حتى لا ينفرد الأجر من غير أن يختلط به الوهب حتى يشغل ذلك الوهب العبد عن معاينة سلطان الاستحقاق الذي يعطيه الأجر إذ كان معاوضة عن عمل متقدم مضاف إلى العبد فلا أجر إلا و يخالطه نور لما ذكرناه فإن النشأة على هذا الأصل قامت و ذلك أن الجسم الطبيعي لما تركب و ظهر بروحه الحساس لو ترك مستقلا لأهلكته الدعوى و لكن جعل اللّٰه له روحا ربانيا من نفس الرحمن الذي هو الروح الإلهي فظهرت لطيفة الإنسان نورا فوكلت بالجسم الحيواني فلهذا قرن الأنوار بالأجور حتى تكون المنة الإلهية تصحب هذا العبد حيث كان وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ و لهذا قلنا إن هذا منزل الاختلاط و إن كان يتضمن علوما جمة منها علم حروف المعاني لا حروف الهجاء و هل إذا دخل بعضها على بعض هل ينقلها عن مقام الحرفية إلى مقام الاسمية إذ الحرف لا يعمل في مثله و بما ذا يعمل حرف في حرف و ليس كل حرف واحد بأقوى من صاحبه مثل دخول من على حرف عن فقد كان حرف عن يعطي معنى التجاوز فصيره حرف من يدل على الجهة و الناحية كما يدل الاسم قال الشاعر

من عن يمين الحبيا نظرة قبل
فالعامل في يمين عن بلا شك و لكن هل عمل فيه عمل الحرفية لبقاء صورته أو عمل فيه عمل الإضافة و هو عمل الأسماء فيكون عمله من طريق المعنى الذي كساه من بدخوله عليه و يكون عن معمولا لمن أو يبقى على أصله فنقول بجواز دخول الحروف بعضها على بعض و نترك عمل الواحد منهما و نجعله زائدا كما نعمله في ما إذا جعلناها زائدة في قوله

إذا ما راية رفعت لمجد
فما هنا زائدة لأن الكلام يستقل دونها فتقول إذا راية فلا عمل هنا لها و كذلك حرف إن في قول امرئ القيس

فما إن من حديث و لا صال
فإن هنا زائدة لا عمل لها فيكون ذلك كذلك و لا مانع إذ لو حذفنا عن من قوله من عن يمين لم يختل المعنى و لا يخرج الحرف عن بابه إلى باب الاسمية من غير ضرورة و إذا أبدل الحرف من الحرف هل يعطي معنى ما أبدل منه أو هل يعطي خلافه و مما يتضمن هذا المنزل علم المراكب و الركبان و علم الزمان و علم شرف الكلام و علم شرف الذكر على الفكر و كون الحق وصف نفسه بالذكر و ما وصف نفسه بالفكر مع أنه أثبت لنفسه التدبير و هو الفكر أو يقوم مقام اللازم له و يتضمن علم الخلق و الصفات و علم البيان و علم الأحوال و علم الاستعداد

اسم الکتاب : الـفتوحات المکیة المؤلف : ابن عربي، محيي الدين    الجزء : 3  صفحة : 33
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست