responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : كتاب الاجتهاد والتقليد المؤلف : الخوئي، السيد أبوالقاسم    الجزء : 1  صفحة : 24
حتى انتهى الدور إلى فخر المحققين وعمدة الفقهاء المبرزين " السيد أبو القاسم الخوئي " المميز من المولى الجليل تعالت نعماؤه بالذكاء المتوقد واصابة الرأي ولا اغالي إذا قلت: باحث ارباب المعقول ففاقهم ودارس الاصوليين فاذعنوا له وجرى مع المفسرين فحاز قصب السبق وناظر المتكلمين ففلجهم وكتابه في مقدمة التفسير " البيان " حافل بما لم تصل إليه افكار النابهين ولم يسبقه المتقدمون في كثير مما كشف الغطاء عنه. فلقد غاص بحر الشريعة واستخرج لئالئه الناصعة ولمس الحقايق الراهنة واماط الستار عن كثير مما اشكل على الفحول والاكابر واوصح السبيل إلى تفاريع المسائل وانار المنهج إلى درس كليات الفنون فلذلك كان مقصد المهاجرين من العلماء لدرس اصول الشريعة وفقهها. ومحاضراته في حل " فروع العروة الوثقى " تشهد له بفقاهة عالية واستنباط دقيق. وقد أحكم اسرار فصولها ونظم دراريها ببيان سهل وعبارة انيقة. العلم الفرد والمجتهد الاوحد حجة الله الواضحة وبينته اللامعة المحقق " الميرزا علي الغروي التبريزي " لا زال مغمورا باللطف الربوبي فجدير بمتنجع الحقائق المسابقة إلى الاحتفاظ بتقريراته لدرس الاستاذ الاكبر " السيد الخوئي " المسماة " بالتنقيح " ولابدع ممن منحه المولى سبحانه ذكاء وقادا وفطنة مصيبة وحافظة قوية الحقته بالحفاظ المعدودين فكان موئل رواد العلم بين من يستوضح منه ما لم تصل إليه فاكرته وبين من ينسخ ما جمعه من ثمرات بحوث اساتذته فالى الباري عزوجل ابتهل بادامة عنايته بهذه الشخصية اللامعة ليرتوي طلاب المعارف من غير ارآئه ويستضئ رواد الحقايق بثاقب افكاره، مد الله تبارك وتعالى في ايامه الزاهية وافاض عليه لطفه الذي يلحقه بالعلماء المحققين " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ".
[ 9 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين إلى يوم الدين وبعد قدم لى العلامة المحقق حجة الاسلام غرة الاسلام غرة عينى الاعز الشيخ الميرزا على الغروى التبريزي دامت تأييداته هذا الجزء من كتابه (التنقيح في شرح العروة الوثقى) في مسائل تتعلق بالاجتهاد والتقليد والاحتياط من تقرير ابحاثنا وقد اجاد كعادته في استيعاب ما القيتر من محاضرات في الفقه الاسلامي على طلاب الحوزة العلمية والاحاطة بتفاصيلها ورقائقها فاسبغ عليها حلة زاهية من اسلوبه الرصين وبيانه المتين فجمع خير بين دفتر الضبط وحلاوة البيان بانى ابارك له هذه المواهب واقدر فيه هذه القابليات يسرنى ان بلغ من العلم هذا المبلغ الذى صار يغيط عليه ومن نعم الله والآلة ان تصبح الحوزة العلمية متعطشة لجهوده في نشر العلم جعله الله قدوة العلماء العاملين واخذ بيده إلى ما فيع المزيد من الرقى وقد استجازني نى طبع هذا الجزء وسائر اجزاء كتابه من كتاب افعله بارى فاجزت له بذلك داعيا له بدوام التوفيق واطراد التأييد والتسديد انه نعم الوهاب في 22 شهر جمادى الثانية أبو القاسم الموسوي الخوئى (1385).
[ 10 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الاولين والآخرين محمد، وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على اعدائهم إلى يوم الدين. وبعد فقد سبق أن وعدنا رواد العلم الشريف المعاودة إلى تحرير مسائل الاجتهاد والتقليد من كتاب " العروة الوثقى " للامام الفقيه السيد محمد كاظم الطباطبائى طاب رمسه. وبعد أن فرغنا من تنسيقها واعدادها - منذ عهد غير بعيد - عزمنا على طبعها اجابة للطلب المتواصل من جم غفير من رجال العلم وحملة الفقه دامت - تأييداتهم - غير أن الاهتمام والانصراف إلى نشر كتابنا " التنقيح " اجزاء متتالية حال دون ذلك. ولما أن تكرر الطلب من شتى الجهات الذي ظل يحفزنا على اخراجها آونة بعد اخرى بادرنا إلى نشرها قبل اصدار الجزء الرابع متكلين في ذلك على الله سبحانه ومستمدين من تأييداته، إنه نعم الوهاب. المؤلف
[ 11 ]
الاجتهاد والتقليد
[ 12 ]
[ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خير خلقه وآله الطاهرين. وبعد فيقول المعترف بذنبه المفتقر إلى رحمة ربه محمد كاظم الطباطبائى: هذه جملة مسائل مما تعم به البلوى وعليها الفتوى، جمعت شتاتها وأحصيت متفرقاتها عسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنون وتكون ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، والله ولي التوفيق. (مسألة 1) يجب على كل مكلف [1]. ]

[1] وهل هذا الوجوب شرعي: نفسي أو طريقي أو غيرى أو أنه عقلي؟ الصحيح أنه عقلي ومعنى ذلك أن العقل يدرك أن في ارتكاب المحرم وترك الواجب من دون استناد إلى الحجة استحقاقا للعقاب كما أن في ارتكاب المشتبهات احتمال العقاب لتنجز الاحكام الواقعية على المكلفين بالعلم الاجمالي أو بالاحتمال كما يأتي تفصيله فلا مناص لدى العقل من تحصيل ما هو المؤمن من العقاب وهذا يحصل باحد الامور الثلاثة: فان المجتهد إما أن يعمل على طبق ما قطع به بالوجدان كما في القطعيات والضروريات وهو قليل واما أن يعمل على طبق ما قطع بحجيته من الامارات والاصول كما أن المقلد يستند إلى فتوى المجتهد وهو حجة عليه على ما يأتي في مورده وأما العامل بالاحتياط فهو يأتي بعمل يسبب القطع بعدم استحقاقه العقاب إذا وجوب الامور الثلاثة عقلي بمناط وجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب. ويترتب عليه بطلان عمل المكلف التارك للاجتهاد والتقليد والاحتياط على ما نبينه في الفرع السابع إن شاء الله وليس هذا الوجوب غيريا ولا طريقيا ولانفسيا.
[ 13 ]
أما عدم كونه غيريا فلان مقدمة الواجب - على ما بيناه في محله - ليست بواجبة شرعا وليس أمرها مولويا بوجه وإنما هي واجبة عقلا لعدم حصول الواجب إلا بها. على أنا لو سلمنا وجوب المقدمة فليس الاحتياط مقدمة لاي واجب فان ما اتى به المكلف إما انه نفس الواجب أو أنه أمر مباح وهو اجنبي عن الواجب رأسا لا أنه مقدمة لوجود الواجب وتحققه بلا فرق في ذلك بين أن يكون اصل الوجوب معلوما وكان التردد في متعلقه كما في موارد الاحتياط المستلزم للتكرار وبين أن يكون اصل الوجوب محتملا كما في موارد الاحتياط غير المستلزم للتكرار ومعه كيف يكون الاحتياط مقدمة لوجود الواجب؟! نعم ضم أحد الفعلين إلى الآخر مقدمة علمية للامتثال لان به يحرز الخروج عن عهدة التكليف المحتمل وكذلك الحال في الاحتياط غير المستلزم للتكرار، لا أنه مقدمة وجودية للواجب ليجب أو لا يجب هذا كله في الاحتياط. وكذلك الاجتهاد والتقليد لانهما في الحقيقة عبارتان عن العلم بالاحكام ومعرفتها، ولايكون معرفة حكم اي موضوع مقوما لوجود ذلك الموضوع ومقدمة لتحققه بحيث لا يتيسر صدوره ممن لا يعلم بحكمه فهذا كرد السلام فانه ممكن الصدور ممن لا يعلم بحكمه وكذلك الحال في غيره من الواجبات إذا يمكن أن يأتي بها المكلف ولو على سبيل الاحتياط من دون أن يكون عالما بحكمها فلا يتوقف وجود الواجب على معرفته بالاجتهاد أو التقليد. نعم لا يتمكن المكلف في بعض الموارد من الاتيان بالعمل الا إذا علم بما اعتبر فيه من القيود والشروط كما في الموضوعات المركبة مثل الصلاة والحج فان الجاهل باحكامهما غير متمكن على اصدارهما الا أنه من الندرة بمكان. وأما عدم كونه وجوبا طريقيا فلان المراد به ما وجب لتنجيز الواجب
[ 14 ]
أو التعذير عنه وليس الاحتياط منجزا للواقع بوجه لما سيأتي من أن الاحكام الواقعية انما تنجزت بالعلم الاجمالي أو بالاحتمال لمكان الشبهة قبل الفحص أو لوجود الامارات القائمة عليها في مظانها كما تأتي الاشارة إليه فالاحكام متنجزة قبل وجوب الاحتياط لا انها تنجزت بسببه فلا معنى للوجوب الطريقي بمعنى المنجزية فيه، كما لا معنى له بمعنى المعذرية لانه لا يتصور في الاحتياط مخالفة للواقع ليكون وجوبه معذرا عنها لانه عبارة عن اتيان الواقع على وجه القطع والبت فلا تتحقق فيه مخالفة الواقع أبدا إذا، لا معنى محصل للوجوب الطريقي في الاحتياط. وأما الاجتهاد والتقليد فقد يبدو للنظر انهما كالاحتياط لا معنى للوجوب الطريقي فيهما بالاضافة إلى التنجيز لان الاحكام الشرعية - كما اشرنا إليه - تنجزت قبل الامر بهما من جهة العلم الاجمالي أو الاحتمال لا انها تنجزت بسببهما. ثم على فرض عدم العلم الاجمالي من الابتداء أو انحلاله بالظفر بجملة معتد بها يستند التنجيز إلى الامارات القائمة على الاحكام في مظانها لان بها يستحق المكلف العقاب على مخالفة الواقع لا انها تتنجز بالاجتهاد ومن هنا لو ترك الاجتهاد رأسا كانت الاحكام متنجزة في حقه واستحق بذلك العقاب على تقدير مخالفة عمله الواقع هذا في الاجتهاد ومنه يظهر الحال في التقليد لتنجز الاحكام الواقعية بوجود فتوى من وجب على العامي تقليده وان ترك تقليده لا أنها تتنجز بالتقليد فالوجوب الطريقي بمعنى التنجيز لا محصل له بالاضافة إلى الاجتهاد والتقليد. نعم الوجوب الطريقي بمعنى المعذرية فيهما صحيح كما إذا افتى المجتهد بما أدى إليه رأيه وعمل به مقلدوه ولكنه كان مخالفا للواقع فان اجتهاده حينئذ كتقليد مقلديه معذران عن مخالفة عملهما للواقع إلا أن ذلك لا يصحح القول بالوجوب الطريقي في الاجتهاد وعدليه وهو ظاهر هذا. ولكن الصحيح أن يقال: إن الكلام قد يفرض في موارد العلم الاجمالي
[ 15 ]
بالاحكام. وقد يفرض في موارد عدمه من الابتداء أو وجوده وانحلاله بالظفر بمقدار معتد به من الاحكام. أما الصورة الاولى: فالحال فيها كما بيناه لانه لا معنى للوجوب الطريقي حينئذ فان مفروض الكلام تنجز الاحكام الواقعية بالعلم الاجمالي فلا مجال لتنجزها ثانيا بالامر بالاحتياط أو التقليد أو الاجتهاد. وأما الصورة الثانية: فلا مانع فيها من الالتزام بكون وجوب الاحتياط وعدليه طريقيا اي منجزا للواقع وذلك: لان أدلة الاصول الشرعية كما بيناه في محله غير قاصرة الشمول لموارد الشبهات الحكمية قبل الفحص ومقتضى ذلك أن الاحكام الواقعية لاتتنجز على المكلفين في ظرف عدم وصولها إذا يكون التنجز مستندا إلى وجوب الاحتياط أو إلى تحصيل الحجة بالتقليد أو الاجتهاد بحيث لولا الامر بها لم يكن اي موجب لتنجز الواقع على المكلفين. ومن ثمة قلنا في محله أن ايجاب الاحتياط طريقي لا محالة لما أشرنا من أن ادلة الاصول الشرعية شاملة لموارد الاحتياط وهو يقتضى عدم تنجز الاحكام قبل الوصول فلو وجب معه الاحتياط فمعناه أن الواقع منجز على المكلف بحيث لو ترك الواقع بتركه العمل بالاحتياط لاستحق العقاب على مخالفته وهو معنى الوجوب الطريقي ثم ان بما حققناه ينكشف أن مجرد وجوب الحجة الواقعية لا يترتب عليه التنجيز بوجه لولا ادلة وجوب الاحتياط أو تحصيل الحجة بالتقليد أو الاجتهاد فان الحجة الواقعية لا تزيد على الاحكام الواقعية في انها لا تصحح العقاب ما لم تصل إلى المكلف ثم ان كون التقليد في موارد عدم العلم الاجمالي واجبا طريقيا يبتني على أن يكون معناه تعلم فتوى المجتهد أو اخذها. وأما بناء على ما هو الصحيح عندنا من انه العمل استنادا إلى فتوى المجتهد فالتقليد نفس العمل ولا معنى لكونه منجزا للواقع فالمنجز على هذا هو الامر بالتعلم بالتقليد أو الاجتهاد.
[ 16 ]
وأما عدم كونه وجوبا نفسيا فلعله أوضح من سابقيه وذلك لانه لاوجه له سوى توهم أن تعلم الاحكام الشرعية واجب بدعوى استفادته من مثل ما ورد: من أن طلب العلم فريضة [1] وقوله عز من قائل: فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
[2] وغيرهما مما يمكن الاستدلال به على هذا المدعى كما ذهب إليه الاردبيلى " قده " وتبعه بعض المتأخرين إلا أنا بينا في محله أن تعلم الاحكام ليس بواجب نفسي وانما التعلم طريق إلى العمل ومن هنا ورد في بعض الاخبار أن العبد يؤتى به يوم القيامة فيقال له: هلا عملت؟ فيقول ما علمت فيقال له هلا تعلمت؟
[3] فترى أن السؤال أولا انما هو عن العمل لا عن التعلم ومنه يستكشف عدم وجوبه النفسي وانه طريق إلى العمل وإلا لكان اللازم سؤال العبد اولا عن التعلم بان يقال له ابتداء: هلا تعلمت. وتفصيل الكلام في عدم وجوب التعلم موكول إلى محله على أنا لو سلمنا وجوب التعلم فالحكم بالوجوب النفسي في تلك الطرق وجعل الاحتياط عدلا للاجتهاد والتقليد مما لا محصل له وذلك لان الاحتياط انما [1] راجع ب 4 من ابواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به من الوسائل.
[2] النحل: 16، 43، الانبياء: 21، 7.
[3] هذه مضمون ما رواه الشيخ في أماليه قال: حدثنا محمد بن محمد يعني المفيد قال اخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد قال حدثنى محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمد (ع) وقد سئل عن قوله تعالى " فلله الحجة البالغة " فقال: ان الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي كنت عالما؟ فان قال: نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلا قال: أفلا تعلمت حتى تعمل فيخصمه فتلك الحجة البالغة. راجع تفسير برهان ج 1 ص 560 من الطبع الحديث وكذا في البحار ج 2 ص 29 و 180 من الطبعة الثانية عن أمالى المفيد.
[ 17 ]
[ في عباداته، ومعاملاته [1] أن يكون مجتهدا أو مقلدا أو محتاطا
[2] ] هو الاتيان بالمأمور به فهو امتثال للحكم حقيقة لا أن الاحتياط تعلم له لضرورة أن المحتاط جاهل بالحكم أو بالمأمور به إلا أنه قاطع بالامتثال وجازم باتيانه المأمور به على ما هو عليه فلا وجه للوجوب النفسي في الاحتياط. نعم لا بأس به في التقليد والاجتهاد نظرا إلى انهما تعلم للاحكام هذا إذا فسرنا التقليد بما يرجع إلى تعلم فتوى المجتهد. وأما إذا فسرناه بما يأتي في محله من أنه الاستناد في العمل إلى فتوى الغير وأن تعلم الفتوى ليس من التقليد في شئ فلا يمكن أن يقال ان التقليد تعلم للاحكام بل التقليد هو الاستناد إلى فتوى المجتهد والتعلم طريق إليه. وأما احتمال أن يكون الوجوب النفسي في تلك الطرق مستندا إلى المصلحة الواقعية الباعثة على الايجاب الواقعي فيدفعه: أنه انما يتم فيما إذا اثبتنا وجوبها شرعا فانه في مقام التعليل حينئذ يمكن أن يقال ان وجوبها منبعث عن نفس المصلحة الواقعية إلا أنه اول الكلام لعدم قيام الدليل على وجوب الاجتهاد والاحتياط. نعم لا بأس بذلك في التقليد بناء على دلالة الادلة على وجوبه الشرعي كما بنى عليه بعض مشايخنا المحققين " قده ". فالمتحصل إلى هنا أن الاجتهاد وعدليه لا يحتمل فيها الوجوب الشرعي الاعم من النفسي والغيري والطريقى وانما وجوبها متمحض في الوجوب العقلي بالمعنى الذي قررناه آنفا. [1] بل وفى عادياته بل في كل فعل يصدر منه على ما يأتي من الماتن " قده " في المسألة التاسعة والعشرين فلاحظ.
[2] لان الاحكام الواقعية متنجزة على كل مكلف بوجوداتها فلا يمكن معه الرجوع إلى البرائة العقلية أو النقلية أو استصحاب عدم التكليف في موارد الاحتمال وذلك للعلم الاجمالي بوجود احكام الزامية في الشريعة المقدسة إذ لا معنى
[ 18 ]
للشريعة العارية عن أي حكم. ولا تجرى الاصول النافية في أطراف العلم الاجمالي أصلا في نفسها، أو أنها تتساقط بالمعارضة. ثم لو فرضنا أن المكلف ليس له علم اجمالي بوجود أي حكم الزامي من الابتداء أو أنه كان إلا انه قد انحل بالظفر بجملة متعد بها من الاحكام أيضا لم يجز له الرجوع إلى الاصول النافية في موارد احتمالها وذلك لانه من الشبهة قبل الفحص وقد بينا في محله أنه لا مورد للاصل في الشبهات الحكمية قبل الفحص فان الحكم الواقعي يتنجز حينئذ بالاحتمال، والنتيجة أن الاحكام الواقعية متنجزة على كل مكلف إما للعلم الاجمالي واما بالاحتمال. وإذا لم تجر البرائة في الاحكام الواقعية عقلا ولانقلا ولا استصحاب العدم لم يكن بد من الخروج عن عهدة امتثالها حيث أن في مخالفتها استحقاق العقاب وطريقه منحصر بالاجتهاد والتقليد والاحتياط وذلك: لان المكلف إما أن يستند في عمله إلى ما علم بحجيته وجدانا أو تعبدا فهو الاجتهاد وبالعمل به يقطع بانه قد ترك الحرام واتى بالواجب ويجزم بخروجه عن عهدة ما توجه إليه من الاحكام. وإما أن يستند في أعماله إلى قول الغير وهو المعبر عنه بالتقليد الا أن القطع بفراغ الذمة بسببه انما هو فيما إذا كان قول الغير ثابت الحجية عنده بالاجتهاد - ولو بالارتكاز - لارتكاز رجوع الجاهل إلى العالم عند العقلا وذلك لان قول الغير ليس بحجة عليه في نفسه ولا يمكن أن تثبت حجية قول الغير بالتقليد وقول الغير لان هذا القول كالقول الاول يتوقف حجيته على دليل فلو توقفت حجية قول الغير على التقليد وقول الغير لدار أو تسلسل. لانا ننقل الكلام إلى القول الثاني ونقول إن حجيته إما أن تستند إلى الاجتهاد أو إلى التقليد وقول الغير فعلى الاول نلتزم به في القول الاول من دون تبعيد المسافة واثبات حجيته بالقول الثاني. وعلى الثاني ينقل الكلام إلى القول الثالث فان
[ 19 ]
حجيته إما أن تثبت بالاجتهاد أو بالتقليد وقول الغير فعلى الاول نلتزم به في القول الاول من دون تبعيد المسافة. وعلى الثاني ننقل الكلام إلى القول الرابع وهكذا إلى مالا نهاية له فالمتحصل أن التقليد لا يمكن أن يكون تقليديا بوجه. نعم لا بأس بالتقليد في فروعه كجواز تقليد غير الاعلم أو البقاء على تقليد الميت كما يأتي في محله إلا أن اصل مشروعية التقليد لابد أن يكون بالاجتهاد فالمقلد - باجتهاده - يعمل على فتوى المجتهد وهو يعمل على ما قطع بحجيته من الامارات والاصول وإما أن يعمل بالاحتياط بأن يأتي بما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته إلا أن الاحتياط لا يتمشى في جميع المقامات إما لعدم امكانه كما في موارد دوران الامر بين المحذورين، وموارد كثرة أطراف الاحتياط بحيث لا يتمكن المكلف من اتيانها وإما لاحتمال عدم مشروعيته كما إذا كان محتمل الوجوب عبادة واحتمل المكلف عدم جواز الامتثال الاجمالي في العبادات عند التمكن من امتثالها تفصيلا - اجتهادا أو تقليدا - وحيث انها عبادة يعتبر فيها قصد القربة ولا يتمشى ذلك مع احتمال الحرمة فلا يسوغ للمكلف الاحتياط في مثلها، أللهم إلا أن يبنى على جوازه بالاجتهاد أو يقلد من يفتى بجوازه في تلك المقامات فالاحتياط لا يكون طريقا إلى القطع بالفراغ في جميع الموارد. وبما سردناه ظهر أن طريق الخروج عن عهدة الاحكام الواقعية المنجزة على المكلفين وان كان منحصرا بالاجتهاد والتقليد والاحتياط إلا أن الاخير ليس في عرض الاولين بحسب المرتبة بل في طولهما نعم يصح عده في عرضهما من حيث العمل لان العمل إما أن يكون بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، كما ظهر أن التقليد ايضا كذلك لانه في طول الاجتهاد بحسب المرتبة لا في عرضه فالاجتهاد هو الاصل الوحيد وهو التصدى لتحصيل القطع بالحجة على العمل لان به يقطع بعدم العقاب على مخالفة الواقع.
[ 20 ]
مباحث الاجتهاد ويقع الكلام فيه من جهات: 1 - تعريف الاجتهاد الاجتهاد مأخوذ من الجهد بالضم وهو لغة: الطاقة، أو أنه من الجهد بالفتح ومعناه: المشقة ويأتي بمعنى الطاقة ايضا، وعليه فالاجتهاد بمعنى بذل الوسع والطاقة سواء أخذناه من الجهد - بالفتح - أو الجهد - بالضم - وذلك لان بذل الطاقة لا يخلو عن مشقة وهما أمران متلازمان. هذا بحسب اللغة. وأما في الاصطلاح فقد عرفوه ب‌ " استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي " وتعريف الاجتهاد بذلك وإن وقع في كلمات أصحابنا " قدس الله أسرارهم " إلا أن الاصل في ذلك هم العامة، حيث عرفوه بذلك لذهابهم إلى اعتبار الظن في الاحكام الشرعية. ومن هنا أخذوه في تعريف الاجتهاد ووافقهم عليه اصحابنا مع عدم ملائمته لما هو المقرر عندهم من عدم الاعتبار بالظن في شى وأن العبرة انما هي بما جعلت له الحجية شرعا سواءأ كان هو الظن أو غيره، فتفسير الاجتهاد بذلك مما لا تلتزم به الامامية بتاتا. بل يمكن المناقشة فيه حتى على مسلك العامة لان الدليل في الاحكام الشرعية عندهم غير منحصر بالظن فهو تفسير بالاخص وعليه فهذا التعريف ساقط عند كلتا الطائفتين. ومن هنا فسره المتأخرون - من أصحابنا - بانه ملكة يقتدر بها على استنباط الاحكام الشرعية. وتعريف الاجتهاد بذلك وان لم ترد عليه المناقشة المتقدمة إلا أن الاجتهاد - بهذا المعنى - ليس من اطراف الوجوب التخييري الثابت للاجتهاد والتقليد والاحتياط. وذلك لان الاحكام الواقعية - على ما بيناه سابقا - قد تنجزت
[ 21 ]
بالعلم الاجمالي أو بالاحتمال ولاجله قد استقل العقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ وهو لا يتحصل إلا بالاحتياط أو بتحصيل العلم بالاحكام من دون متابعة الغير - كما في الاجتهاد - أو بمتابعته - كما في التقليد - حيث أن المكلف بتركه تلك الطرق يحتمل العقاب في كل ما يفعله ويتركه لاحتمال حرمته أو وجوبه والعقل مستقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب. ومن البديهى أن المجتهد أعنى من له ملكة الاستنباط من غير أن يستنبط ويتصدى لتحصيل الحجة ولا في حكم واحد كغيره يحتمل العقاب في كل من أفعاله وتروكه ومعه لابد له ايضا إما أن يكون مجتهدا أو مقلدا أو يحتاط. وبهذا ينكشف أن الاجتهاد الذي يعد عدلا للتقليد والاحتياط ليس هو بمعنى الملكة، وانما معناه تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بالفعل اعني العمل والاستنباط الخارجيين لانه المؤمن من العقاب ولا اثر في ذلك للملكة وتوضيحه: أن ملكة الاجتهاد غير ملكة السخاوة والشجاعة ونحوهما من الملكات إذ الملكة في مثلهما انما يتحقق بالعمل وبالمزاولة كدخول المخاوف والتصدي للمهالك فان بذلك يضعف الخوف متدرجا ويزول شيئا فشيئا حتى لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة وغيرها من الامور المهام فترى انه يدخل الامر الخطير كما يدخل داره. وكذلك الحال في ملكة السخاوة فان بالاعطاء متدرجا قد يصل الانسان مرتبة يقدم غيره على نفسه فيبقى جائعا ويطعم ما بيده لغيره والمتحصل أن العمل في امثال تلك الملكات متقدم على الملكة. وهذا بخلاف ملكة الاجتهاد لانها إنما يتوقف على جملة من المبادى والعلوم كالنحو والصرف وغيرهما والعمدة علم الاصول فبعد ما تعلمها الانسان تحصل له ملكة الاستنباط وان لم يتصد للاستنباط ولا في حكم واحد، إذا العمل أي الاستنباط متأخر عن الملكة فلا وجه لما قد يتوهم من أنها كسائر الملكات غير منفكة عن العمل والاستنباط فمن حصلت له الملكة
[ 22 ]
فلا محالة اشتغل بالاستنباط وعليه فبمجرد حصول الملكة له يحصل له الامن عن العقاب. بل الاستنباط كما عرفت متأخر عن الملكة من غير ان يكون له دخل في حصولها. نعم تتقوى الملكة بالممارسة والاستنباط - بعد تحققها في نفسها - لا أنها تتوقف عليه في الوجود. إذا الاجتهاد بمعنى الملكة لا يترتب عليه الامن من العقاب ولا يكون عدلا للتقليد والاحتياط فالصحيح أن يعرف الاجتهاد: بتحصيل الحجة على الحكم الشرعي وهو بهذا المعنى سليم عن كلتا المناقشتين المتقدمتين. بقي شي وهو أن المجتهد بمعنى من له الملكة قبل أن يستنبط شيئا من الاحكام هل يجوز تقليده؟ وهل يحرم عليه تقليد الغير؟ وهل يترتب عليه غير ذلك من الاحكام المترتبة على الاجتهاد أو أنها مختصة بالمجتهد الذي تصدى لتحصيل الحجة على الاحكام اعني المستنبط بالفعل ولا يعم من له الملكة إذا لم يتصد للاستنباط خارجا؟ ولكنه بحث خارج عن محل الكلام، لان البحث انما هو في الاجتهاد الذي هو عديل التقليد والاحتياط وهو من أطراف الواجب التخييري. وأما أن الاحكام المتقدمة تترتب على من له ملكة الاستنباط أو لاتترتب فيأتي عليه الكلام في البحث عن شرائط المقلد إن شاء الله. ثم إن التعريف الذي قدمناه للاجتهاد مضافا إلى أنه سليم عن المناقشتين المتقدمتين يمكن أن تقع به المصالحة بين الاخباريين والاصوليين وذلك لان الفريقين يعترفان بلزوم تحصيل الحجة على الاحكام الشرعية ولا استيحاش للاخباريين عن الاجتهاد بهذا المعنى وإنما أنكروا جواز العمل بالاجتهاد المفسر باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي والحق معهم لان الاجتهاد بذلك المعنى بدعة ولايجوز
[ 23 ]
العمل على طبقه، إذ لا عبرة بالظن في الشريعة المقدسة، بل قد نهى الله سبحانه عن اتباعه في الكتاب العزيز وقال عز من قائل: وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا [1] وقال: يا ايها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن..
[2] إلى غير ذلك من الايآت. وأما تحصيل الحجة على الاحكام فهو مما لابد منه عند كل من اعترف بالشرع والشريعة لبداهة أن الاحكام الشرعية ليست من الامور البديهية التي لا يحتاج اثباتها إلى دليل. نعم قد يقع الخلاف في بعض المصاديق والصغريات - مثلا - لا يرى الاصولي شيئا حجة وهو حجة عند المحدثين، أو بالعكس إلا انه غير مضر بالاتفاق على كبرى لزوم تحصيل الحجة على الحكم، كيف فانه قد وقع نظيره بين كل من الطائفتين فترى أن المحدث الآسترابادى يرى عدم حجية الاستصحاب في الاحكام الكلية إلا في استصحاب عدم النسخ ويرى غيره خلافه هذا كله في الاجتهاد، وكذلك الحال في التقليد، إذ لا موقع لاستيحاش المحدثين منه لانه على ما فسرنا الاجتهاد به من الامور الضرورية والمرتكزة عند العقلاء حيث أن من لا يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أو انه تمكن ولكنه لم يتصد لتحصيلها جاهل به، كما أن من حصلها عالم بالحكم، وجواز رجوع الجاهل إلى العالم من الضروريات التي لم يختلف فيها اثنان وهو أمر مرتكز في الاذهان وثابت ببناء العقلاء في جميع الاعصار والازمان. والمتحصل إلى هنا أن الاجتهاد بمعنى تحصيل الظن بالحكم الشرعي كما يراه المحدثون بدعة وضلال إلا أن الاصوليين لا يريدون اثباته وتجويزه ولا يدعون وجوبه ولا جوازه بوجه بناء على عدم تمامية مقدمات الانسداد - كما هو صحيح - [1] يونس 10: 36.
[2] الحجرات 49: 12.
[ 24 ]
وأما الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي فهو أمر لا يسع المحدث انكاره وهو الذي يرى الاصولي وجوبه فما انكره المحدثون لا يثبته الاصوليون كما أن ما يريد الاصولي اثباته لا ينكره المحدثون إذا يظهر ان النزاع بين الفريقين لفظي وهو راجع إلى التسمية فان المحدث لا يرضى بتسمية تحصيل الحجة اجتهادا وأما واقعه فكلتا الطائفتين تعترف به كما مر. 2 - مبادى الاجتهاد يتوقف الاجتهاد على معرفة اللغة العربية لوضوح أن جملة من الاحكام الشرعية وان لم يتوقف معرفتها على معرفة اللغة كوجوب مقدمة الواجب وغيره من موارد الاحكام العقلية الاستلزامية إلا أنه لا شبهة في أن اكثر الاحكام يستفاد من الكتاب والسنة وهما عربيان فلا مناص من معرفة اللغة العربية في استنباطها منهما حتى إذا كان المستنبط عربي اللسان، لان العربي لا يحيط بجميع اللغة العربية وإنما يعرف شطرا منها فلا بد في معرفة البقية من مراجعة اللغة. ولا نقصد بذلك أن اللغوي يعتبر قوله في الشريعة المقدسة، كيف ولم يقم دليل على حجيته، وانما نريد أن نقول ان الرجوع إلى اللغة من الاسباب المشرفة للفقيه على القطع بالمعنى الظاهر فيه اللفظ ولا أقل من حصول الاطمئنان بالظهور وان لم يثبت انه معناه الحقيقي بقوله، وذلك لان الفقيه انما يدور مدار الظهور ولا يهمه كون المعنى حقيقة أو مجازا. ثم إن بهذا الملاك الذي أحوجنا إلى معرفة اللغة العربية نحتاج إلى معرفة قواعدها لانها أيضا مما يتوقف عليه الاجتهاد وذلك كمعرفة احكام الفاعل والمفعول لضرورة أن فهم المعنى يتوقف على معرفتها. نعم لا يتوقف الاجتهاد على معرفة ما لا دخالة له في استفادة الاحكام من أدلتها وذلك كمعرفة الفارق بين البدل وعطف البيان وغير ذلك مما يحتوى عليه الكتب المؤلفة في الادب.

اسم الکتاب : كتاب الاجتهاد والتقليد المؤلف : الخوئي، السيد أبوالقاسم    الجزء : 1  صفحة : 24
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست