فان قلت كيف يصح ان يقال (لا يستمع) لشيء من أهل الارض و هو يقال سامع لكل مسموع؟ قلت: معناه لا يتقبل، على حد قولك: خاطبته بكلام فلم يسمعه، و هذا كلام لا اسمعه، و هذا الخبر لا دلالة فيه على جواز التغني؛ للفرق الواضح بين الصوت الحسن و بين الغناء، و أما الخبران الاولان فيحتمل فيهما وجوه:
أحدها: ان المراد من قوله (من لم يتغن) من لم يستغن و هذا كثير في شعر العرب، نظيره قال الأعشى [1]:
و كنتُ امرأً زمنا بالعراقْ * * * عفيفَ المناخ طويل التَّغنّ
كلانا غنيٌ عن اخيه حياته * * * و نحن إذا متنا أشد تغانيا
و يؤيد ذلك ما روي عن ابن مسعود انه قال: (من قرأ سورة عمران فهو غني) [3]، و في حديث آخر (نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل) [4]، و ما روي عن النبي (صلّى الله عليه و آله و سلم) أنه قال: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يظن أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي لأنه لو ملك الدنيا بأسرها كان القرآن أفضل مما ملكه) [5].
ثانيها: المراد بقوله (من لم يتغنَّ) [6] من لم يستعذب و يستحل و يتلذذ، فمن لم يتلذذ بالقرآن- كما أن أهل الطرب يتلذذون بالغناء- فليس منا، و سمى ذلك تغنيا لمشابهته الغناء في أن كل منهما صوت يتلذذ به.
ثالثها: المراد من التغني المقام من قبيل قولهم: غني الرجل بالمقام إذا طال مقامه به و منه المغنى و المغاني و منها قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)*[7] أي لم يقيموا فيها