وصل هارون الرشيد إلى مَكَّة ، فقضى حَجَّه وشهد مناسكه ومشاعره ثمَّ انصرف قافلاً إلى بغداد ، وذلك في آخر شهر ذي الحجة من سنة ثمانين ومئة ، فلمَّا همَّ بالانصراف وذكر القفول إلى العراق . رفع إليه أهل مَكَّة كتاباً يسألونه فيه أنْ يولِّي عليهم قاضياً عادلاً ، فأدخلهم على نفسه فقال : إنْ شئتم فاختاروا منكم رجلاً صالحاً أولِّيه قضاءكم ، وإنْ أحببتم بعثت إليكم مِن العراق رجلاً لا آلوكم فيه إلاَّ خيراً ، فخرجوا فاختاروا رجلاً فاختلفوا فيه ، فاختارت طائفة منهم رجلاً واختارت أُخرى رجلاً آخر .
فلمَّا اختلفوا ارتفعوا إلى الرشيد يذكرون اختلافهم ، فقال لهم هارون : أدخلوا عليَّ هذين الرجلين اللذين اختلفتم فيهما ، فإذا برجلين أحدهما شيخ مِن قريش والآخر غُلام حديث مِن الموالي .
فلمَّا نظر إليهما الرشيد قال للشيخ : ادْنِ منِّي فدنا منه ، فقال له الرشيد : أيُّها القاضي ، إنَّ بيني وبين وزيري هذا خصومة ونزاعاً فاقض بيننا بالحَقِّ .
فقال الشيخ : قصَّا عليَّ قصَّتكما فقصَّا عليه .
فقال الشيخ : تُقيم البيِّنة ـ يا أمير المؤمنين ـ على ما ذكرته ، أو يحلف وزيرك هذا .
فقال له هارون : إنَّ أخي لا يُدافعني ما أقول ولا يُنكر إلاَّ قليلاً مِمَّا أدَّعي ، فلم يزالا يُردِّدان القول بيهما ويتنازعان حتَّى قضى القاضي لأمير المؤمنين على الوزير .
فقال له : قُمْ . فقام عنه .
ثمَّ دعا بالغُلام الحَدَث الذي دعته الطائفة الأُخرى فدخل عليه ، فقال له : ادْن منِّي فدنا منه .