وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : * ( إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) * فَفِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ سِتَّةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ إذَا تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ بِالْإِسْلَامِ .وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا تُسْقِطُ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ حَدًّا وَلَا حَقًّا ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ إذَا تَابُوا بِأَمَانِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَّا التَّائِبُ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَلَا تُؤَثِّرُ تَوْبَتُهُ فِي سُقُوطِ حَدٍّ وَلَا حَقٍّ وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَالشَّعْبِيِّ .وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ تَابَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مَنَعَةٍ وَتَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عُقُوبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ لَمْ تَسْقُطْ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَرَبِيعَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ .وَالْخَامِسُ : أَنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ تَضَعُ عَنْهُ جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .وَالسَّادِسُ : أَنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَضَعُ عَنْهُ جَمِيعَ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ إلَّا الدِّمَاءَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .فَهَذَا حُكْمُ الْآيَةِ وَاخْتِلَافُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا ، ثُمَّ نَقُولُ فِي الْمُحَارِبِينَ إنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى امْتِنَاعِهِمْ مُقِيمِينَ قُوتِلُوا كَقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ وَيُخَالِفُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُمْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ مَنْ وَلَّى مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ .وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ فِي الْحَرْبِ إلَى قَتْلِ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى قَتْلِ أَهْلِ الْبَغْيِ .وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ .وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ حَبْسُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ .وَالْخَامِسُ : أَنَّ مَا اجْتَبَوْهُ مِنْ خَرَاجٍ وَأَخَذُوهُ مِنْ صَدَقَاتٍ فَهُوَ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا نَهْبًا لَا يُسْقِطُ عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ حَقًّا فَيَكُونُ غُرْمُهُ عَلَيْهِمْ مُسْتَحَقًّا ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى عَلَى قِتَالِهِمْ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ حَدًّا ، وَلَا أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ حَقًّا وَيَلْزَمُهُ حَمْلُهُمْ إلَى الْإِمَامِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَامَّةً عَلَى قِتَالِهِمْ وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ مِنْهُمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ لِيَنْفُذَ حُكْمُهُ فِيمَا يُقِيمُهُ مِنْ حَدٍّ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنْ حَقٍّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَشَفَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا بِإِقْرَارِهِمْ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا إكْرَاهٍ .وَإِمَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، فَإِذَا عَلِمَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَا فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَرَائِمِهِ