الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي قِتَالِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِذَا اجْتَمَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَى شَهْرِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ وَمَنْعِ السَّابِلَةِ فَهُمْ الْمُحَارِبُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : * ( إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ) * .فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا أَنَّ الْإِمَامَ وَمَنْ اسْتَنَابَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ مِنْ الْوُلَاةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَتِّلَ وَلَا يُصَلِّبَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَتِّلَ وَيُصَلِّبَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْفِيَهُمْ مِنْ الْأَرْضِ ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ .وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ قَتَلَهُ وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ ، وَمَنْ كَانَ ذَا بَطْشٍ وَقُوَّةٍ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ذَا رَأْيٍ وَلَا بَطْشٍ عَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ ، هَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَهَا مُرَتَّبَةً بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ لَا بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِهِمْ .وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِهِمْ لَا بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ ، فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ : قُتِلَ وَصُلِبَ ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ : قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ : قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَمَنْ كَثُرَ وَهَيَّبَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ عُزِّرَ وَلَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُقَطَّعْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِهِمْ ثُمَّ صَلْبِهِمْ وَبَيْنَ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ قَتْلِهِمْ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مَهِيبًا مُكْثِرًا فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِمْ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : * ( أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ) * .فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهَا أَنَّهُ إبْعَادُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَى بِلَادِ الشِّرْكِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ .وَالثَّانِي : أَنَّهُ إخْرَاجُهُمْ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى أُخْرَى وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْحَبْسُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .وَالرَّابِعُ : وَهُوَ أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَبْعُدُوا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ .