و ذلك عند ما يبرهن لهم أن من شأن النفس إدراك ماهية الكل بكسب
المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل، فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأول، و لا أيضا
فى سائر القوى، بل شعور أكثر القوى بكمالاتها أنما يحدث بعد أسباب.
و أما النفوس و القوى الساذجة الصرفة، فكأنها هيولى موضوعة لم تكتسب
ألبتة هذا الشوق؛ لأن هذا الشوق أنما يحدث حدوثا و ينطبع فى جوهر النفس إذا برهن
للقوة النفسانية أن ههنا أمورا يكتسب العلم بها بالحدود الوسطى على ما علمت. و أما
قبل ذلك فلا يكون، لأن هذا الشوق يتبع رأيا؛ إذ كل شوق يتبع رأيا، و ليس هذا الرأى
للنفس رأيا أوليا بل رأيا مكتسبا.
فهؤلاء إذا اكتسبوا هذا الرأى، لزم النفس ضرورة هذا الشوق؛ و إذا
فارقت و لم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال التام وقعت فى هذا النوع من الشقاء
الأبدى؛ لأن أوائل الملكة العلمية أنما كانت تكتسب بالبدن لا غير و قد فات، و
هؤلاء إما مقصرون عن السعى فى كسب الكمال الإسنى، و إما معاندون جاحدون متعصبون
لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية، و الجاحدون أسوأ حالا لما اكتسبوا من هيآت
مضادة للكمال.
و أما أنه كم ينبغى أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات حتى
يجاوز به الحد الذى فى مثله تقع هذه الشقاوة، و فى تعدّيه و جوازه ترجى هذه
السعادة، فليس يمكننى أن أنصّ عليه نصا إلّا بالتقريب. و أظن أن ذلك أن تتصور نفس
الإنسان المبادئ المفارقة تصورا حقيقيا، و تصدق بها تصديقا يقينيا لوجودها عندها
بالبرهان و تعرف العلل الغائية للأمور الواقعة فى الحركات الكلية دون الجزئية التى
لا تتناهى، و تتقرر عندها هيئة الكل و نسب أجزاء بعضها إلى بعض، و النظام الآخذ من
المبدأ الأول إلى أقصى