اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 60
يجد فيه سبيلا إلى مزيّة علم، و فضل استبانة، و تلخيص حجّة، و تحرير
دليل، ثمّ يعرض عن ذلك صفحا، و يطوي دونه كشحا، و أن يربأ بنفسه، و تدخل عليه
الأنفة من أن يكون في سبيل المقلّد الذي لا يبتّ حكما، و لا يقتل الشيء علما، و
لا يجد ما يبرئ من الشبهة، و يشفى غليل الشاكّ، و هو يستطيع أن يرتفع عن هذه
المنزلة، و يباين من هو بهذه الصفة، فإنّ ذلك دليل ضعف الرأي و قصر الهمّة ممن
يختاره و يعمل عليه.
اعلم أن ليس «النّظم» إلا أن تضع
كلامك الوضع الذي يقتضيه «علم النحو»، و تعمل على قوانينه و أصوله، و تعرف مناهجه
التي نهجت فلا تزيغ عنها، و تحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخلّ بشيء منها.
و ذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه
الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب و فروقه، فينظر في «الخبر» إلى الوجوه
التي تراها في قولك: «زيد منطلق» و «زيد ينطلق»، و «ينطلق زيد» و «منطلق زيد»، و
«زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» و «زيد هو المنطلق»، و «زيد هو منطلق».
و في «الشرط و الجزاء» إلى الوجوه
التي تراها في قولك: «إن تخرج أخرج» و «إن خرجت خرجت» و «إن تخرج فأنا خارج» و
«أنا خارج إن خرجت» و «أنا إن خرجت خارج».
و في «الحال» إلى الوجوه التي
تراها في قولك: «جاءني زيد مسرعا»، و جاءني يسرع»، و «جاءني و هو مسرع أو و هو
يسرع» و «جاءني قد أسرع» و «جاءني و قد أسرع».
فيعرف لكلّ من ذلك موضعه، و يجيء
به حيث ينبغي له.
و ينظر في «الحروف» التي تشترك في
معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلّا من ذلك في خاص
معناه، نحو أن يجيء ب «ما» في نفس الحال، ب «لا» إذا أراد نفي الاستقبال، و ب
«إن» فيما يترجح بين أن يكون و أن لا يكون، و ب «إذا» فيما علم أنه كائن.
و ينظر في «الجمل» التي تسرد،
فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل،
[2] و هو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف و طوى كشحه على الأمر:
أضمره و ستره. القاموس/ كشح/
[305] .
[3] قوله: و أن يربأ بنفسه. جملة معطوفة على: (أن لا يرضى من
نفسه).
دلائل الإعجاز
في علم المعاني، ص: 61
ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع «الواو» من موضع «الفاء»، و موضع
«الفاء» من موضع «ثم»، و موضع «أو» من موضع «أم»، و موضع «لكن» من موضع «بل».
و يتصرّف في التعريف، و التنكير، و
التقديم، و التأخير، في الكلام كله، و في الحذف، و التكرار، و الإضمار، و الإظهار،
فيصيب بكلّ من ذلك مكانه، و يستعلمه على الصّحة و على ما ينبغي له.
هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا
يرجع صوابه إن كان صوابا، و خطؤه إن كان خطأ إلى «النظم»، و يدخل تحت هذا الاسم،
إلّا و هو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، و وضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه
المعاملة، فأزيل عن موضعه، و استعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف
بصحّة نظم أو فساده، أو وصف بمزيّة و فضل فيه، إلا و أنت تجد مرجع تلك الصحة و ذلك
الفساد و تلك المزية و ذلك الفضل، إلى معاني النحو و أحكامه، و وجدته يدخل في أصل من
أصوله، و يتّصل بباب من أبوابه.
هذه جملة لا تزداد فيها نظرا، إلا
ازددت لها تصوّرا، و ازدادت عندك صحة، و ازددت بها ثقة. و ليس من أحد تحرّكه لأن
يقول في أمر «النظم» شيئا، إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، و وافق فيها درى
ذلك أو لم يدر. و يكفيك أنّهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد «النظم»،
فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق: [من الطويل]
و ما مثله في النّاس إلّا مملّكا
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
و قول المتنبي: [من الكامل]
و لذا اسم أغطية العيون جفونها
من أنّها عمل السّيوف عوامل
و قوله: [من الكامل]
الطّيب أنت إذا أصابك طيبه،
و الماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
[1] البيت في ديوانه يمدح فيه هشام بن عبد الملك بن مروان أحد ملوك
بني أمية، و خاله الممدوح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. انظر اللسان (ملك)،
و معاهد التنصيص (1/ 43)، و هو بلا نسبة في الخصائص (1/ 146، 329)، (2/ 393).
[2] في ديوانه فانظره، ضمير أنها للعيون، أي: أنها تعمل عمل
السيوف، و لذا سميت أغطية العيون جفونا، و الجفون: أغماد السيوف، أي: لأنها تعمل
عمل السيوف.
[3] في ديوانه، و المعنى: إذا أصابك الطيب يتنشق طيبك لأنك أنت
طيبة، و إذا اغتسلت بالماء فأنت الغاسل له.
اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 60