اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 53
و جعل كأنه يقدم الرجل و يؤخّرها على الحقيقة، كما كان الأصل في
قولك: «رأيت أسدا»، رأيت رجلا كالأسد، ثم جعل كأنّه الأسد على الحقيقة.
و كذلك تقول للرجل يعمل في غير
معمل: «أراك تنفخ في غير فحم، و تخطّ على الماء»، فتجعله في ظاهر الأمر كأنّه ينفخ
و يخط، و المعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك. و تقول للرجل يعمل الحيلة حتى يميل
صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه و يمتنع منه: «ما زال يفتل في الذّروة و الغاب حتى
بلغ منه ما أراد»، فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان منه فتل في ذروة و غارب، و المعنى
على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصّعب
فيحكّه و يفتل الشّعر في ذروته و غاربه، حتى يسكن و يستأنس، و هو في المعنى نظير
قولهم: «فلان يقرّد فلانا»، يعنى به أنه يتلطّف له فعل الرجل ينزع القراد من
البعير ليلذّه ذلك، فيسكن و يثبت في مكان حتى يتمكن من أخذه. و هكذا كلّ كلام
رأيتهم قد نحو فيه نحو التمثيل، ثم لم يفصحوا بذلك، و أخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا
تمثيلا.
[فصل: في ترجيح الكناية و الاستعارة و التمثيل على الحقيقة]
قد أجمع الجميع على أن «الكناية»
أبلغ من الإفصاح، و التعريض أوقع من التصريح، و أنّ للاستعارة مزية و فضلا، و أنّ
المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة، إلّا أن ذلك، و إن كان معلوما على الجملة، فإنه لا
تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته، و حتى يغلغل الفكر
إلى زواياه، و حتى لا يبقى عليه موضع شبهة و مكان مسألة. فنحن و إن كنا نعلم أنك
إذا قلت: «هو طويل النجاد، و هو جمّ الرماد»، كان أبهى لمعناك، و أنبل من أن تدع
الكناية و تصرح بالذي تريد. و كذا إذا قلت: «رأيت أسدا»، كان لكلامك مزيّة لا تكون
إذا قلت: رأيت رجلا هو و الأسد سواء، في معنى الشجاعة و في قوة القلب و شدة البطش
و أشباه ذلك. و إذا قلت:
«بلغني أنك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى»، كان أوقع من صريحه الذي هو
قولك:
بلغني أنك تتردد في أمرك، و أنك في
ذلك كمن يقول: أخرج و لا أخرج، فتقدّم رجلا و تؤخّر أخرى. و نقطع على ذلك حتى لا
يخالجنا شك فيه، فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون، إذا عرفنا السبب في ذلك و العلّة،
و لم كان كذلك، و هيأنا له عبارة تفهم عنّا من نريد إفهامه. و هذا هو قول في ذلك:
[1] كان أوقع من صريحه: جملة لجواب الشرط و هو قوله «و إن كنا
نعلم».
اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 53