اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 37
كثرت الكثرة العظيمة، و اتّسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق و طاقة
البشر؟ و كيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة، و كلم معدودة معلومة، بأن يؤتى ببعضها
في إثر بعض، لطائفلا يحصرها العدد، و لا
ينتهي بها الأمد؟ أم أن يبحث عن ذلك كلّه، و يستقصي النظر في جميعه، و يتتبعه شيئا
فشيئا، و يستقصيه بابا فبابا، حتى يعرف كلّا منه بشاهده و دليله، و يعلمه بتفسيره
و تأويله، و يوثق بتصويره و تمثيله، و لا يكون كمن قيل فيه: [من الطويل]
يقولون أقوالا و لا يعلمونا
و لو قيل: هاتوا حقّقوا، لم يحققوا
قد قطعت عذر المتهاون، و دللت على
ما أضاع من حظّه، و هدايته لرشده، و صحّ أن لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور، و
الوقوف عليها، و الإحاطة بها، و أنّ الجهةالتي
منها يقف، و السبب الذي به يعرف، استقراء كلام العرب و تتبّع أشعارهم و النظر
فيها. و إذ قد ثبت ذلك، فينبغي لنا أن نبتدئ في بيان ما أردنا بيانه، و نأخذ في
شرحه و الكشف عنه.
و جملة ما أردت أن أبيّنه لك: أنه
لا بدّ لكل كلام تستحسنه، و لفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة و
علّة معقولة و أن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، و على صحة ما ادعيناه من ذلك
دليل.
و هو باب من العلم إذا أنت فتحته
اطّلعت منه على فوائد جليلة، و معان شريفة، و رأيت له أثرا في الدين عظيما و فائدة
جسيمة، و وجدته سببا إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل و إصلاح أنواع
من الخلل فيما يتعلّق بالتأويل، و إنّه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك، و تدافع عن
مغزاك، و يربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تهدي إليه، و تدلّ بعرفان ثم لا تستطيع
أن تدلّ عليه و أن تكون عالما في ظاهر مقلّد، و مستبينا في صورة شاكّ و أن يسألك
السائل عن حجّة يلقى بها الخصم في آية من كتاب اللّه تعالى أو غير ذلك، فلا ينصرف
عنك بمقنع و أن يكون غاية ما لصاحبك منك أن تحيله على نفسه، و تقول: «قد نظرت
فرأيت فضلا و مزيّة،
[2] البيت لأنس بن زنيم في ديوانه و نسبه البعض إلى أبي الأسود
الدؤلي، و في لسان العرب (سرق) من أبيات قالها لحارثة بن بدر الغداني عند ولايته
إمارة سرّق (موضع بالأهواز)، انظر الحيوان (3/ 116)، و أمالي الشريف (1/ 383-
385).