اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 236
فإن شككت في استحالته لم تكلّم. و إن قلت: نعم، هو محال.
قيل لك: فإذا كان محالا أن يجب في
الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخّى في معانيها معاني النحو، كان قولك: «إن الشاعر ابتدأ
فيها ترتيبا»، قولا بما لا يتحصّل.
و جملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في
شيء حتّى يكون هناك قصد إلى صورة و صفة إن لم يقدّم فيه ما قدّم، و لم يؤخّر ما
أخّر، و بدئ بالذي ثنّي به، أو ثنّي بالذي ثلّث به، لم تحصل لك تلك الصورة و تلك
الصّفة. و إذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من
الصورة و الصّفة: أ في الألفاظ يحصل له ذلك، أم في معاني الألفاظ؟ و ليس في
الإمكان أن يشكّ عاقل إذا نظر، أن ليس ذلك في الألفاظ، و إنما الذي يتصوّر أن يكون
مقصودا في الألفاظ هو «الوزن»، و ليس هو من كلامنا في شيء، لأنّا نحن فيما لا
يكون الكلام كلاما إلّا به، و ليس للوزن مدخل في ذلك.
فصل [في ربط اللفظ بالمعنى]
و اعلم أني على طول ما أعدت و
أبدأت، و قلت و شرحت، في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث «اللفظ»، لربّما
ظننت أني لم أصنع شيئا، و ذاك أنك ترى الناس كأنّه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا
الذي نحن بصدده، على التقليد البحت، و على التوهّم و التخيّل، و إطلاق اللّفظ من
غير معرفة بالمعنى، قد صار ذاك الدّأب و الدّيدن، و استحكم الداء منه الاستحكام
الشديد. و هذا الذي بيّناه و أوضحناه، كأنك ترى أبدا حجازا بينهم و بين أن يعرفوه،
و كأنّك تسمعهم منه شيئا تلفظه أسماعهم، و تتكرّهه نفوسهم، و حتى كأنّه كلّما كان
الأمر أبين، كانوا عن العلم به أبعد، و في توهّم خلافه أقعد، و ذاك لأن الاعتقاد
الأوّل قد نشب في قلوبهم، و تأشّب فيها، و دخل بعروقه في نواحيها، و صار كالنبات
السّوء الذي كلما قلعته عاد فنبت.
و الذي له صاروا كذلك، أنهم حين
رأوهم يفردون «اللفظ» عن «المعنى»، و يجعلون له حسنا على حدة، و رأوهم قد قسّموا
الشّعر فقالوا: «إنّ منه ما حسن
لفظه و معناه، و منه ما حسن لفظه دون معناه، و منه ما حسن معناه دون
لفظه»، و رأوهم يصفون «اللّفظ» بأوصاف لا يصفون بها «المعنى»، ظنّوا أنّ للّفظ، من
حيث هو لفظ حسنا و مزيّة و نبلا و شرفا، و أن الأوصاف التي نحلوه إيّاها هي أوصافه
على الصّحّة، و ذهبوا عمّا قدّمنا شرحه من أنّ لهم في ذلك رأيا و تدبيرا، و هو أن
يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض، و بين الصّورة التي يخرج فيها، فنسبوا ما كان من
الحسن و المزيّة في صورة المعنى إلى «اللفظ»، و وصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن
أنفسها أنها ليست له، كقولهم: «إنّه حلي المعنى، و إنه كالوشي عليه، و إنه قد كسب
المعنى دلّا و شكلا، و إنه رشيق أنيق، و إنه متمكّن، و إنّه على قدر المعنى لا
فاضل و لا مقصّر»، إلى أشباه ذلك مما لا يشكّ أنّه لا يكون وصفا له من حيث هو لفظ
و صدى صوت، إلّا أنّهم كأنهم رأوا بسلا حراما أن يكون لهم في ذلك فكر و رويّة، و
أن يميّزوا فيه قبيلا من دبير.
و ممّا الصّفة فيه للمعنى، و إن
جرى في ظاهر المعاملة على «اللّفظ»، إلا أنه يبعد عند الناس كلّ البعد أن يكون
الأمر فيه كذلك، و أن لا يكون من صفة «اللفظ» بالصّحة و الحقيقة و صفنا اللّفظ
بأنه «مجاز».
و ذاك أنّ العادة قد جرت بأن يقال
في الفرق بين «الحقيقة» و «المجاز»: إنّ «الحقيقة»، أن يقرّ اللفظ على أصله في
اللغة، و «المجاز»، أن يزال عن موضعه، و يستعمل في غير ما وضع له، فيقال: «أسد» و
يراد «شجاع»، و «بحر» و يراد جواد.
و هو و إن كان شيئا قد استحكم في
النفوس حتى إنك ترى الخاصّة فيه كالعامّة، فإنّ الأمر بعد على خلافه. و ذاك أنّا
إذا حقّقنا، لم نجد لفظ «أسد» قد استعمل على القطع و البتّ في غير ما وضع له. ذاك
لأنه لم يجعل في معنى «شجاع» على الإطلاق، و لكن جعل الرجل بشجاعته أسدا. فالتجوّز
في أن ادّعيت للرجل أنّه في معنى الأسد، و أنه كأنه هو في قوّة قلبه و شدة بطشه، و
في أن الخوف لا يخامره، و الذّعر لا يعرض له. و هذا إن أنت حصّلت، تجوّز منك في
معنى اللفظ لا اللفظ، و إنما يكون اللّفظ مزالا بالحقيقة عن موضعه، و منقولا عمّا
وضع له، أن لو كنت تجد عاقلا يقول: «هو أسد»، و هو لا يضمر في نفسه تشبيها له
بالأسد، و لا يريد إلّا ما يريده إذا قال: «هو شجاع». و ذلك ما لا يشكّ في بطلانه.
[1] الدل: دل المرأة و دلالها التغنج. القاموس مادة/ دلل/
[1292]
[2] الشكل: بالكسر و الفتح غنج المرأة و دلها و غزلها. القاموس
مادة/ شكل/
[1318] .