اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 234
و جملة الحديث أنّا نعلم ضرورة أنه لا يتأتّى لنا أن ننظم كلاما من
غير رويّة و فكر، فإن كان راوي الشعر و منشده يحكي نظم الشاعر على حقيقته، فينبغي
أن لا يتأتى له رواية شعره إلّا برويّة، و إلّا بأن ينظر في جميع ما نظر فيه
الشاعر من أمر «النظم». و هذا ما لا يبقى معه موضع عذر للشّاكّ.
و هذا، و سبب دخول الشّبهة على من
دخلت عليه، أنّه لما رأى المعاني لا تتجلّى للسامع إلّا من الألفاظ، و كان لا يوقف
على الأمور التي بتوخّيها يكون «النظم»، إلّا بأن ينظر إلى الألفاظ مرتّبة على
الأنحاء التي يوجبها ترتيب المعاني في النفس و جرت العادة بأن تكون المعاملة مع
الألفاظ فيقال: «قد نظم ألفاظا فأحسن نظمها، و ألّف كلما فأجاد تأليفها» جعل
الألفاظ الأصل في «النظم»، و جعله يتوخّى فيها أنفسها، و ترك أن يفكّر في الذي
بيّنّاه من أن «النظم» هو توخّي معاني النّحو في معاني الكلم، و أنّ توخّيها في
متون الألفاظ محال. فلما جعل هذا في نفسه، و نشب هذا الاعتقاد به، خرج له من ذلك
أن الحاكي إذا أدّى ألفاظ الشّعر على النّسق الذي سمعها عليه، كان قد حكى نظم
الشاعر كما حكى لفظه.
و هذه شبهة قد ملكت قلوب الناس، و
عشّشت في صدورهم، و تشرّبتها نفوسهم، حتى إنك لترى كثيرا منهم و هو من حلولها
عندهم محلّ العلم الضروريّ، بحيث إن أومأت له إلى شيء مما ذكرناه اشمأزّ لك، و
سكّ سمعه دونك، و أظهر التعجّب منك. و تلك جريرة ترك النّظر، و أخذ الشيء من غير
معدنه، و من اللّه التوفيق.
فصل [في النظم و الترتيب]
اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير
الشعر من ضروب الكلام إلى قائله، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم و أوضاع لغة، و
لكن من حيث توخّي فيها «النظم» الذي بيّنا أنه عبارة عن توخّي معاني النحو في
معاني الكلم. و ذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص، فهي تتناول الشيء من الجهة التي
تختصّ منها بالمضاف إليه. فإذا قلت: «غلام زيد»، تناولت الإضافة «الغلام» من الجهة
التي تختصّ منها بزيد، و هي كونه مملوكا.
[1] البيت: لعبيد اللّه بن قيس الرقيات (الديوان 91) و تقدم ذكره.