اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 232
و السبب في ذلك أن هذا التعريض، إنّما وقع بأن كان من شأن «إنّما» أن
تضمّن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات، و التصريح بامتناع التذكّر ممن لا يعقل.
و إذا أسقطت من الكلام فقيل: «يتذكّر أولو الألباب»، كان مجرّد وصف لأولي الألباب
بأنهم يتذكّرون، و لم يكن فيه معنى نفي للتذكّر عمّن ليس منهم. و محال أن يقع
تعريض لشيء ليس له في الكلام ذكر، و لا فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني
بأن تقول: «يتذكّر أولو الألباب» بإسقاط «إنما»، يقع إذن إن وقع، بمدح إنسان
بالتيقّظ، و بأنه فعل ما فعل، و تنبّه لما تنبّه له، لعقله و لحسن تمييزه، كما
يقال:
«كذلك يفعل العاقل»، و «هكذا يفعل الكريم».
و هذا موضع فيه دقّة و غموض، و هو
مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنّه ينبغي أن يتعرّف سببه، و يبحث عن حقيقة الأمر
فيه.
و ممّا يجب لك أن تجعله على ذكر
منك من معاني «إنما»، ما عرفتك أوّلا من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيّل فيه
المتكلم أنه معلوم، و يدّعي أنه من الصحة بحيث لا يدفعه دافع، كقوله: [من الخفيف]
إنما مصعب شهاب من اللّه و من اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن: [من الطويل]
ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما
أجدّت لغزو، إنّما أنت حالم
و من ذلك قوله تعالى حكاية عن
اليهود: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا
إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ[البقرة:
11]، دخلت «إنّما» لتدلّ على أنهم حين ادّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون، أظهروا أنهم
يدّعون من ذلك أمرا ظاهرا معلوما، و لذلك أكّد الأمر في تكذيبهم و الردّ عليه،
فجمع بين «ألا» الذي هو للتنبيه، و بين «إنّ» الذي هو التأكيد، فقيل:
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ
[البقرة: 12].