اسم الکتاب : دلائل الإعجاز في علم المعاني المؤلف : الجرجاني، عبد القاهر الجزء : 1 صفحة : 17
لأنه بإيثارهم الجهل بذلك على العلم، في معنى الصادّ عن سبيل اللّه،
و المبتغي إطفاء نور اللّه تعالى.
و ذاك أنّا إذا كنّا نعلم- أن
الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن و ظهرت، و بانت و بهرت، هي أن كان على حدّ من
الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، و منتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر، و كان محالا
أن يعرف كونه كذلك، إلّا من عرف الشّعر الذي هو ديوان العرب، و عنوان الأدب، و
الذي لا يشكّ أنّه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة و البيان، و تنازعوا
فيهما قصب الرّهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، و زاد بعض
الشعر على بعض- كان الصّادّ عن ذلك صادّا عن أن تعرف حجة اللّه تعالى، و كان مثله
مثل من يتصدّى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب اللّه تعالى و يقوموا به و يتلوه و
يقرءوه، و يصنع في الجملة صنيعا يؤدّي إلى أن يقلّ حفّاظه و القائمون به و
المقرءون له. ذاك لأنّا لم نتعبّد بتلاوته و حفظه، و القيام بأداء لفظه على النّحو
الذي أنزل عليه، و حراسته من أن يغيّر و يبدّل، إلّا لتكون الحجة به قائمة على وجه
الدهر، تعرف في كل زمان، و يتوصّل إليها في كل أوان، و يكون سبيلها سبيل سائر
العلوم التي يرويها الخلف عن السّلف، و يأثرها الثاني عن الأوّل، فمن حال بيننا و
بين ما له كان حفظنا إيّاه، و اجتهادنا في أن نؤدّيه و نرعاه، كان كمن رام أن
ينسيناه جملة و يذهبه من قلوبنا دفعة، فسواء من منعك الشيء الذي تنتزع منه الشاهد
و الدليل، و من منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، و الاطّلاع على تلك الشهادة،
و لا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفى به من دائك، و تستبقي به حشاشة نفسك، و
بين من أعدمك العلم بأنّ فيه شفاء، و أنّ لك فيه استبقاء.
فإن قال منهم قائل: إنك قد أغفلت
فيما رتّبت، فإنّ لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت، و هو علمنا بعجز العرب
عن أن يأتوا بمثله و تركهم أن يعارضوه، مع تكرار التّحدّي عليهم، و طول التقريع
لهم بالعجز عنه. و لأن الأمر كذلك، ما قامت به الحجّة على العجم قيامها على
العرب، و استوى الناس قاطبة، فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجا
بالقرآن.
قيل له: خبرنا عما اتّفق عليه
المسلمون من اختصاص نبيّنا صلى اللّه عليه و سلم بأن كانت
[1] قوله: كان الصاد. جواب إذا في قوله: «و ذاك أنّا إذا كنا نعلم»
في بداية الفقرة.
[2] مثال ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء الآية
[17] :
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.